بؤس الايدولوجيا

الطالب: حسن يوسف العيسوي

بؤس الايدولوجيا


محتويات
1 بؤس النزعة التاريخية عند كارل بوبر
1.1 السياق التاريخي للكتاب
1.2 2- ما هي النزعة التاريخية عند بوبر ؟
1.3 3- انتقادات بوبر للخصائص الرئيسية للنزعة التاريخية
1.3.1 3.1- الابستمولوجية المتفائلة وتلك المتشائمة
1.3.2 2.3- شكلين مختلفين من الشمولية
1.3.3 3.3- مخاطر هذا النوع من النزعة التاريخية
1.3.4 3.3- شكلين متعارضين للهندسة الاجتماعية
1.3.5 5.3 – هل للتاريخ معنى ؟
1.3.6 6.3- نبوءة تتحق بذاتها
1.3.7 3.7- الخلط بين الاتجاهات والقوانين
1.4 بؤس الايدولوجيا / نقد مبدأ الانماط في التطور التاريخي
1.5 مقدمة
1.6 دعاوي التاريخانية المعارضة للمذهب الطبيعي
1.6.1 التعميم
1.6.2 التجربة
1.6.3 الجدة
1.6.4 التعقيد
1.6.5 عدم الدقة في التنبؤ
1.6.6 الموضوعية والتقويم
1.6.7 النزعة الكلية
1.6.8 الحدس الادراكي
1.6.9 المناهج الكمية
1.7 نقد الدعاوي المعارضة للمنهج الطبيعي[4]
1.7.1 الأهداف العملية لها النقد
1.7.2 الاتجاه التكنولوجي في علم الاجتماع
1.7.3 الهندسة الجزئية والهندسة اليوتوبية
1.7.4 التحالف الشائن مع اليوتوبية
1.8 مصادر وحواشي
1.9 وصلات خارجية

بؤس النزعة التاريخية عند كارل بوبر
السياق التاريخي للكتاب


النواة الأولى للنص تشكلت تقريبا عام 1919 , خلال الثورة البلشفية عام 1917, وعنوان الكتاب يشير إلى جدلية مع مقال لماركس "بؤس الفلسفة". في هذا النص يبدو واضح نقد بوبر للماركسية باعتبارها واحدة من أشكال النزعة التاريخانية.
في الثلاثينات نضج المسار الإجمالي للكتاب ,حيث تحول اهتمامه نحو الفاشية والنازية في أوروبا. في تلك السنوات وبسبب الاضطهاد النازي، اضطر بوبر، الذي كان من أصل يهودي، الانتقال إلى نيوزيلندا. وقال بوبر نفسه ان الكتاب يناهض الاستبداد، ومكمل لجزء آخر كتبه في عام 45، بعنوان: "المجتمع المفتوح وأعداؤه". حيث دافع عن الديمقراطية ضد الاستبداد وأيديولوجيته.
وبالإضافة إلى ذلك، من الجدير الإشارة إلى أن مقدمة الترجمة الإيطالية للكتاب مخصصة إلى ضحايا الأنظمة الشمولية الفاشية والنازية والشيوعية السوفيتية.
في هذا النص، توسع بحث بوبر ليشمل الميدان الاجتماعي، ولكن في خصائصه الرئيسية برز المنهج العلمي والمعرفة العلمية على حد سواء. بالنسبة له الامر لا يتعلق بمجالات من المعرفة المنفصلة بينها. ويقول " إن اهتمامي ليس موجه لنظرية المعرفة العلمية فقط ، بل أيضا لنظرية المعرفة بشكل عام." [1]
2- ما هي النزعة التاريخية عند بوبر ؟


يشمل بوبر بهذا المصطلح جميع مفاهيم التاريخ التي تعتقد أنها قادرة على فهم بطريقة مقنعة موضوعية هدف العالم، أي قادرة على تحديد القوانين العالمية التي توجه تطور التاريخ البشري، وبالتالي القدرة على تقديم توقعات لمستقبل العالم. ويشير بوبر الى الفلاسفة الرئيسين الذين بنوا نظم فكر من هذا النوع : أفلاطون، هيغل (الأكثر تأثيرا من الآباء المؤسسين للأفكار التاريخانية) وماركس. والذين كرس لهم مناقشة وتحليل مستفيض ونقد لاذع للغاية في كتابه "المجتمع المفتوح وأعداؤه." ما هي السمات العامة التي تميز النزعة التاريخية , ولماذا أسلوبهم لا يتوافق مع ما هو صالح ومفيد ؟.
تفاؤل معرفي ⇆ معصوميه الانسان عن الفشل في معرفة الواقع الموضوعي ككل.
الحقيقة ≅ الكشف والواقع كمكملات فكرية واضحة تماما للإنسان.
المعرفة الإنسانية = الابسمتية episteme (معرفة أكيدة) ضد الرأي DOXA (او تخمين كما قد يقول بوبر)، أي قدرة الانسان للوصول الى حقيقة الأشياء.
الادعاء في اعتباره مجمل الواقع (مثلا مسار التاريخ ككل), وفقا للمبدأ الهيغلي "الحقيقي هو الكامل", أي لا يمكن أن نفهم جزء واحد دون الكل (وهذا الكل يشمل الأصل ، والبعد الزمني).


بوبر يتحدث عن النظريات الشمولية (باليونانية Olos كل شيء, كامل). التي تعارض بشكل عام الطريقة الذرية" للعلم التجريبي، وتعتبره غير كافي لدراسة الواقع الاجتماعي والتاريخي. لأنه لا يمكن إجراء تجارب اجتماعية صالحة إلا بشكل كلي (التي صعب جدا تحقيقها، إن لم يكن مستحيلا). والفرضيات أو النظريات من هذا النوع ليست تجريبية، او علمية ولا حتى ذو خصائص ما قبل علمية.
تحديد القوانين التاريخية والعالمية للتنمية وبالتالي المتأصلة في مسار العالم. هذه القوانين لديها إمكانية تقديم تنبؤات عن المستقبل وتجعل حتى من الممكن معرفة الهدف النهائي من التاريخ. على سبيل المثال الماركسية تقول بعد نهاية الرأسمالية ودكتاتورية البروليتاريا، سيأتي المجتمع الاشتراكي بدون الطبقات. وهذه القوانين تضع الضوء على مصير العالم، ومصير التاريخ حيث يخضع الجميع. وهذه القوانين تشرح معنى التاريخ (وهنا ندخل في مجال الماهيات).








3- انتقادات بوبر للخصائص الرئيسية للنزعة التاريخانية


بالرغم من أن بوبر يعترف بوجود اختلافات بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية , فهو لا يفصل بينهما بطريقة صارمة. لهذا السبب يعتقد أن يجب تطبيق المنهج العلمي كما حدده على كلاهما. لأن هذا المنهج هو الوحيد القادر على ضمان معرفة صالحة وغير دوغمية (لامتحجرة فكريا) , ويبدد مخاطر مثل الايدولوجيا وتراكم السلطة والاستبداد. ويقول بوبر بأنه واجب أخلاقي حقيقي. و "هنا تظهر كل الابستمولجية البوبرية (أي نظرية المعرفة العلمية والغير علمية)، مثل مسألة الأسس، وبالتالي صلاحية الافتراضات العلمية , بالتالي مشكلة الأسلوب، لأن الأسلوب هو الذي يعطي أساسا صالحا للعلوم. وهنا وقبل كل شئء يأخذ بوبر في الاعتبار الطريقة التاريخانية ويخضعها للتحليل النقدي.
3.1- الابستمولوجية المتفائلة وتلك المتشائمة


على العكس يقترح بوبر نظرية معرفية متشائمة , الوحيدة القادرة على الحفاظ على نظرة نقدية نحو الافتراضات. "متشائمة بمعنى أنها لا تعتقد في إمكانية التوصل إلى الحقيقة المطلقة الموضوعية. التي عادة ما يجد فيها البحث غايته النهائيه ( كما هو عنوان كتابه: البحث بدون نهاية-" Unended Quest"). بوبر لا يؤمن ان المعرفة = الابسمتية (المعرفة الاكيدة)، بل على العكس يعتقد أن المعرفة هي دائما رأي (DOXA) , او تخمين قابل للفحص والنقد، يجب أن توضع على المحك. وهو معيار بوبر للانتقال من معيار قابلية التحقق الى معيار قابلية الخطأ (أي المعيار الفاصل بين العلم وغير العلم). المعرفة تمضي عن طريق التجربة والخطأ: الأخطاء هي محرك البحث (العلم تطور دائما من خلال نقد النظريات السابقة التي لم تعد قادرة على شرح ملاحظة لظاهرة جديدة). العالم نفسه الذي صاغ الفرضية يجب أن يسعى أولا لايجاد الظروف التي تدحض نظريته.


تفاؤل النزعة التاريخانية - الجدل مع الوضعيون الجدد - ليس منهج مفيدة: من الممكن دائما، يقول بوبر، العثور على تأكيدات إذا كان هذا هو الذي ما يبحثون عنه > الانسان يبدأ دائما من الناحية النظرية أو من فرضية أو حتى من مشكلة في عقله, ويميل إلى رؤية وتفسير الحقائق التجريبية وفقا لتوقعاته الاولية ، وبالتالي بطريقة جزئية > ومن هنا يقول بوبر لا للاستدلال الاستقرائي. العلوم التجريبية - يقول بوبر - لا يمكن ان تمضي قدما إلا بخطوات صغيرة، وباختيار دائما قطاع محدود للتحقق أو عدد محدود من الخصائص التي تنتمي إلى نفس الظاهرة. هذا هو لأنه لا يمكن فهم "الكل" , نظرات الإنسان دائما انتقائية بالضرورة. وخصوصا التجربة لا يمكن ان تتم بشكل كلي، أخذين في الاعتبار جميع المتغيرات الموجودة، بما في ذلك عامل الوقت على نحو تاريخي.
3.2- شكلين مختلفين من الشمولية


بوبر يميز بين شكلين مختلفين من الشمولية التي تعني "الكل" بطريقتين مختلفتين:
أ- الكل باعتباره جميع الأطراف وجميع العلاقات القائمة بينهما؛
ب- الكل كهيكل: تحديد بعض الجوانب التي تعطي للشيء مظهر هيكل منظم وليس مزيج غير منضبط أو انصهار غير واضح المعالم , مثال على ذلك هو علم النفس الغشتلتي[2]


هذا النموذج الأخير يسمح، على عكس الأول، بالدراسة العلمية، لأنه ينطوي على اختيار موضوع واحد للتحقق
3.3- مخاطر هذا النوع من النزعة التاريخية


المبالغة في تقدير القدرة البشرية ("التفاؤل المعرفي") والموقف الشمولي، هي سمات النزعة التاريخية، وهي تحمل الكثير من المخاطر: على سبيل المثال، إعادة تشكيل المجتمع وهيكلتة بطريقة جذرية ، وفقا لقوانين التاريخ المزعومة (على سبيل المثال، تنبأت الماركسية بنهاية وشيكة للرأسمالية ومرحلة دكتاتورية للبروليتاريا قبل الوصول الى المجتمع الاشتراكي، دون الطبقات، كموعد نهائي للقصة. الأنظمة الشيوعية حاولت تنفيذ هذه النبوءة عمليا. و أكثر مأسوية هي حالة النازية، التي تعمل على إبادة ما وصفته عدوها العنصري, في ضوء انتصار الأقوى والأفضل: الجنس الآري المزعوم . بوبر يريد ان يقول أن التاريخانية (historicism) تصلح جيدا لان تستخدم وتحول إلى أيديولوجيات وأن تصبح فعلية في حالة وصولها للسلطة، حتى الحصول على الشمولية وبالتالي الى مجتمع غير ديمقراطي. نموذجية الأنظمة الاستبدادية والشمولية هي الإرادة لتشكيل "مجتمع جديد" وبناء "الإنسان الجديد"، استنادا إلى القوانين التاريخانية المزعومة أو المصير التاريخي. النبوءة في هذه الحالة تصبح هدف سياسي لتحقيق بشكل نشط وبأي ثمن، توجيه للقوى الجتماعية نحو التنمية الاجتماعية المتوقعة.
3.3- شكلين متعارضين للهندسة الاجتماعية


بوبر يعرف هذه النزعة بالميكانيكية التاريخانية او بالهندسة الاجتماعية، لأنها تسعى إلى بناء وتشييد مجتمع من خلال خطة تنظيمية شاملة.
كمعارضة لهذا النوع من الهندسة بوبر يقترح الهندسة الاجتماعية الجزئية: ففيها مهمة المهندس هي تصميم الآلة (النظم الاجتماعية) وتشغيلها وصيانتها، وتصميم آليات جديدة. أي دراسة المجتمع ومؤسساته لغرض محدد لجعلها تعمل على النحو الأفضل. ولكن هذا يجب أن يتم لقطاعات محدودة، وبخطوات صغيرة وبشكل تدريجي ( كما يفعل المهندس في الواقع) . على عكس النظرة الكلية وموقفها واسع النطاق. هذا هو النهج العلمي: اختبار تجريبيا كل عنصر جديد، والتحقق من كل رد فعل لتدخلاتنا، وبالتالي السعى للسيطرة وتوقع النتائج المترتبة من المشاريع والإصلاحات الاجتماعية وتأثيرها على المجتمع. على عكس المهندس الاجتماعي الكلي، يفقد بسهولة السيطرة على الإصلاحات، والتغييرات أو الثورات.
5.3 – هل للتاريخ معنى ؟


تحديد القوانين التاريخانية الكلية، بالإضافة إلى رسم نوع من مصير العالم , حيث يخضع له الجميع بالضرورة ، وأيضا لإعطاء التاريخ معنى وبالتالي وضع نهاية يتجه اليها الجميع. هذا يعكس موقف بوبر الذي سماه المنهجية الماهيوية: مبدأ أخذه بوبر من أرسطو , ويعني البحث عن شيء يمكن أن يخترق جوهر الأشياء حتى يستطيع تفسيرها تفسيرا وافيا. الماهية هي التفسير النهائي للأشياء، الأكثر جوهرية والأكثر تميزا (الماهية ضد الاسمية) . في اللحظة التي نحدد فيها الماهية , لا يبقى لأي تفسير آخر أي ضرورة، أو بالأحرى لا يوجد لأن البحث قد انتهى. على سبيل المثال، في حين أن الماهيويون essentialists يتساءلوا: "ما هي المادة؟"، الantiessenzialisti كما هو بوبر يتساءلوا: "كيف يتصرف هذا الجزء المعين من المادة ؟" وهنا يقول بوبر في حين أن العلوم الطبيعية قد تجاوزت موقف المنهجية الماهيوية ، العلوم الاجتماعية، على العكس لا تزال في هذا الموقف.
6.3- نبوءة تتحق بذاتها


ذكرنا معيار قابلية التحقق, والسهولة التي من خلالها يمكن التأكد من قانون تاريخي معين من خلال البيانات التجريبية. وإذا تم دحضها من قبل بعض الأحداث الراهنة، المذهب التاريخاني بالرغم من ذلك لا يتجاهلها، ولكنه يميل إلى تأجيلها للوقت الذي يناسب تأكيدها: أي انها ستتحقق بطريقة أو بأخرى عندما يحين وقتها. في علم الاجتماع، بما يتعلق بالنبوة التي تتحقق بذاتها, يقول ميرتون (R._K._Merton, 1910_2003) "إذا كان الشخص يعرف وضع ما كوضع حقيقي، هذا يصبح حقيقي فيما يترتب عليه. وبالاشارة الى مثال أدلى به ميرتون: إذا كان الناس يعتقدون دون أي سبب أن بنك معين سوف يفشل، سيقوم الجميع بسحب ودائعهم, ونتيجة ذلك سيفشل البنك. النبوءة بذاتها هي في الواقع تعريف خاطئ للحالة، ولكن هذا التعريف يؤدي إلى سلوك يجعل النبوءة تتحقق. إنه من الواضح أن هذه الآلية تشكل تأكيد كاذب للقانون او للنبؤة و يبرز بشكل واضح عدم استدامة معيار قابلية التحقق لاستكشاف نظرية معينة تجريبيا.
3.7- الخلط بين الاتجاهات والقوانين


بوبر يجلب حجة أخرى لنقد معيار قابلية التحقق والتاريخانية: التاريخانية تخلط بين الاتجاهات والقوانين، وبالتالي تعمل تعميمات غير مبررة: مثلا يكفي ملاحظة اطراد الأحداث في حالات محدودة وفي أوقات محددة، لأن يطبقون هذا الاطراد في أي زمان ومكان، ويحولونه الى قوانين عامة. بهذه الطريقة التاريخانية تبدل الخاص بالعام, ولا تأخذ في الاعتبار العديد من المتغيرات التي تحدث في الحالات المختلفة. بوبر يضرب مثل عن النظرية الكلاسيكية اليونانية لدورية الزمن. حيت يلاحظ ان هناك انتظام مفترض في تتابع أنواع الحكومات, والذي عمموه على كل التاريخ. وفي هذه الحالة سيكون من السهل العثور على أدلة متزايدة في اختيار تلك الوقائع التي تؤيد هذه النظرية.


بوبر في نقدة يعتمد على مقولة لهيوم : مهما تكرر نظام ما, حتى لو كان شروق الشمس كل صباح, لا يمكننا أبدا تحويله إلى قانون كلي, أي صالح في كل مكان وزمان.




بؤس الايدولوجيا / نقد مبدأ الانماط في التطور التاريخي


الدعوى الأساسية في هذا الكتاب هي قول بوبر بأن الاعتقاد بالمصير التاريخي هو مجرد خرافة, وأنه لا يمكن التنبؤ بمجرى التاريخ الإنساني بأي طريقة من الطرق العلمية او العقلية. والمحاولات التي تبذل في التنبؤ لا يمكن ان تبلغ نتائجها الا بعد حدوث هذه النتائج. أي تصبح مجرد تقرير لما وقع في الماضي.


بؤس الايدولوجيا هو اسم كتاب من تاليف كارل بوبر , ترجمة عبد الحميد صبرة , 1992.
ويعتبر هذا الكتاب من بين أبرز الكتب التي أثرت تأثيرا كبيرا على الفكر السياسي للقرن العشرين. حيث نقدت فيه الآراء التي تقول بوجود "قوانين" تُسير التطور التاريخي. فالأفكار التي زعم أصحابها بإمكانيتها في التكهن المستقبلي، لم تقتصر على فيلسوف أو اثنين، بل شملت لائحة تمتد من هيرقليطس إلى كارل مانهايم وأرنولد تويني، مروراً بأفلاطون وهيجل وماركس وأوجست كونت وستيرارت مل وستبنجلر. وهذا يعني ان الفلسفة التاريخانية كانت ضاربة الجذور قبل ان يأتي بوبر ويميز بين «التنبؤ» و«النبوءة»، ويقول سواء كان المتنبئ بشرا ام حاسوبا فإنه لا يستطيع ان يتنبأ بما سيصل إليه التطور المعرفي، فكل المحاولات لا تبلغ نتائجها إلا بعد حدوث هذه النتائج.


وحجة بوبر القوية على كذب المذهب التاريخي, تنحصر في 5 قضايا, وهي:


1. أن التاريخ الانساني يتأثر في مسيرته بنمو المعرفة البشرية،


2. والطرق العقلية لا تستطيع ان تتنبأ بكيفية نمو معارفنا العلمية.


3. إذن لا يمكن التنبؤ بمستقبل سير التاريخ الانساني


4. والنتيجة المنطقية لهذه الفرضية تلغي إمكانية قيام أي علم تاريخي يوازي علم الطبيعة النظري، وحين تغيب النظرية العلمية في التطور التاريخي تصبح كل التنبؤات التاريخية هلوسات وهباء. مثلا كعب أخيل في النظرية الماركسية كانت في عدم قدرتها على التكهن بتراجع دور القوة العضلية لصالح الآلة. وبما ان المستقبل كتاب مفتوح على كل الاحتمالات، فكل من يزعم انه يحيط علما باحتمالاته يدخل في اطار السحر والتنجيم.[3]


5. إذن فقد أخطأ المذهب التاريخاني في الوصول الى غايته الأساسية.


بالرغم من هذا فهذا الكتاب لا يدحض كل أنواع التنبؤات الاجتماعية, فمثلا يتفق مع إمكانيه اختبار النظريات الاجتماعية مثل تلك الاقتصادية, عن طريق التنبؤ بان أمور معينة يمكن ان تحدث إذا تحققت شروط معينة.
مقدمة


في مقدمة الكتاب يقول بوبر ان جاليليو حقق للعلوم الطبيعية تقدما فاق غيرها من العلوم. وكذلك العلوم البيولوجية حققت نجاحا في عهد باستير (Louis Pasteur -1822 – 1895). ولكن العلوم الاجتماعية لم تجد جاليليو يحقق لها نجاحات مماثلة. وهنا بدأت المحاولات التي تهدف الى تقليد المناهج التجريبية للعلوم الطبيعية التي باءت معظمها بالفشل, عدا الاقتصاد وعلم النفس. وبعد ذلك حاولت العلوم الاجتماعية تطبيق المناهج الفيزيقية. وهذا الإصرار ربما كان السبب فيما ظلت عليه العلوم من حالة يؤسف عليها.


وفقا لإمكانية تطبيق المناهج الفيزيقية يمكن تصنيف المدارس الفكرية إلى مدرستين: واحدة مؤيدة للمذهب الطبيعي (أو ايجابية) والاخرى معارضة له (أو سلبية).
معظم اخطاء التاريخيون منشؤها عدم فهم مناهج العلم الطبيعي.
وفي الفصل الاول والثاني الكتاب يتطرق لتلك المدرستين. بالاضافة الى تناول الموقف الذي يمتزج فيه النوعين معا. حيث في الفصول اللاحقة تم نقده.


عبارة التاريخانية تعني طريقة في معالجة العلوم الاجتماعية , وتفترض فيها ان التنبؤ التاريخي هو غايتها الرئيسية. التي تتم من خلال افتراض قوانين واتجاهات وانماط سير التاريخ .
دعاوي التاريخانية المعارضة للمذهب الطبيعي


يعارض المذهب التاريخاني المذهب الطبيعي لما يوجد من فوارق بينهما. من اهمها ان عالم الطبيعة تسيطر عليه قوانين فيزيقية صادقة في كل زمان ومكان. خلافا لما يحدث في علم الاجتماع. ويقولون انه بالرغم من تكرار الحوادث في الحياة الاجتماعية فهي لا تحدث بشكل ثابت وتعتمد في حدوثها على التاريخ وعلى الفوارق الحضارية. أي انها تعتمد على موقف معين. فمثلا يمكن التحدث عن القوانين الاقتصادية في فترة تاريخية معينة (العهد الصناعي, عهد الاقطاع ...).


أي ان اتصاف القوانين الاجتماعية بالنسبية التاريخية تمنع من تطبيق المناهج الفيزيقية في علم الاجتماع. والحجج الرئيسية للتاريخانية المعارضة تتعلق بالتعميم, والتجربة, وتعقد الطواهر الاجتماعية, وصعوبة التنبؤات الدقيقة, واهميه القول بالماهيات. وفيما يلي شرح لهذه الحجج.
التعميم


نجاح التعميم في العلوم الطبيعية يرجع الى ان اطرادات الحوادث المتماثلة تحدث في ظروف متماثلة. أما في علم الاجتماع فالظروف لا تظل على حالها بتغير الفترات الزمنية. ولا يوجد اطرادات طويلة المدى قد تبرر تعميمات طويلة المدى. ونظرية تعميم كهذه تنكر على المجتمع ان يتطور أو ان يكون لهذه التطور أثر في انتظام الحياة الاجتماعية.
بالاضافة الى ان الاطرادات الاجتماعية تختلف بين فترة واخرى وليست كحال القوانين الطبيعية وانما هي من صنع الانسان. وهذه الاراء التي تحث على التدخل في الامور الانسانية ورفض حتمية الواقع, تسمى "النزعة العملية" .
التجربة


العلوم الطبيعية تستخدم منهج التجربة من خلال عزل الظواهر الطبيعية صناعيا لتكرار الظروف المتماثلة وما يترتب عليها من نتائج. وهذا يعتمد على المبدأ ان الامور المتماثلة تحدث في الظروف المتماثلة. خلافا لذلك الظروف المتماثلة في علم الاجتماع لا تحدث إلا في حدود فترة تاريخية واحدة. وبالتالي دلالة التجربة ستكون محدودة. بالاضافة الى ذلك عزل الظواهر الاجتماعية يستبعد العوامل الاكثر أهمية في علم المجتمع. فمثلا لايجاد نظام اقتصادي مفيد يجب ان ينشأ عن طريق التأثير بين الافراد والجماعات.
وهكذا يحتج التاريخيون على استحالة إجراء التجارب في علم الاجتماع, حتى تلك واسعة النطاق.
الجدة


الحجة التاريخانية تقول انه لا يمكن تكرار التجارب الاجتماعية في الظروف المتماثلة لانها تكون قد تغيرت نتيجة إجرائها للمرة الاولى. وهذه الحجة تعتمد على فكرة ان المجتمع كالكائن العضوي يتذكر تاريخه. أ ي انه عندما تتكرر الحوادث فأنها تفقد ما لها من جدة وتصبح عادة. ولولا الامر كذلك لما كان للتقاليد المختلفة شان هام في الحياة الاجتماعية. اذن يمكن القول بان التكرار الحقيقي ممتنع في التاريخ, أي أن التاريخ يعيد نفسة ولكن أبدا على نفس المستوى. الجدة في علم الطبيعة هي جدة في الترتيب والتأليف, خلافا لجوهرية الجدة الاجتماعية.
اختلاف الحوادث الاجتماعية تجعل من الصعب صياغة القوانين العامة.








التعقيد


الحياه الاجتماعية بالغة التعقيد لسببين رئيسيين: الاول هو أننا لا نستطيع عزل الظاهرة الاجتماعية اصطناعيا على غرار ما يحدث في علوم الطبيعة. والسبب الأخر هو ان الظاهرة الاجتماعية تشمل النفس الإنسانية, أي علم النفس, الذي يتطلب بدوره علم الحياة وبالتالي الكيمياء والفيزيقا.
عدم الدقة في التنبؤ


التنبؤ في علم الاجتماع كما يقول التاريخانيين صعب ليس فقط بسبب تعقد المجتمع, بل وخصوصا بسبب التأثير المتبادل بين التنبؤات والاحداث المتنبئ بها. مثلا اذا تنبئنا بأن سعر الأسهم سيأخذ بالارتفاع لمدة ثلاثة ايام وبعدها سيهبط. هذا يؤدي الى ان من له صلة بالسوق سوف يبيع أسهمه في اليوم الثالث. وهذا يعني ان الحادث ما كان ليقع لولا حدوث التنبؤ. وهذا يجعل من المستحيل عمل تنبؤات دقيقة.
الموضوعية والتقويم


بالرغم من الأحداث يمكن ان تتأثر بعملية التنبؤ كما يقول التاريخيين, فهم لا يستثنون ان يكون لها في بعض الظروف أثار رجعية مهمة. فقد يتطرف التنبؤ إلى حد خلق الحدث. أو قد يحول دون وقوعه. ولكن قد يعرف مسبقا بوقوع حدث ولا يتنبئ به علنا, وبالتالي فهو بهذه الحالة لا يراعي مبدأ موضوعية العلم. فكل ما يقوله العالم الاجتماعي يمكن ان يرتب عليه تطورات. أي يمكن للعالم الاجتماعي ان يقوم بوظيفة القابلة, أي توليد الفترات الاجتماعية الجديدة , ولهذا يمكن أن يكون أداة في أيدي المحافظين في تأخير تغيرات اجتماعية وشيكة الوقوع. هذه الإمكانيات في التنبؤ يمكن ان تكون عامل في تحديد الفوارق بين المذاهب الاجتماعية, مثلا في حالة اتصالها بالميول والمصالح السائدة, الاتجاه يسمى "نزعة تاريخية" (Historism) . أما اذا كانت صلتها بالمصالح الاقتصادية او الطبقية, تسمى النظرة الاجتماعية في المعرفة.
النزعة الكلية


ويعتبر التاريخيون ان النزعة الكلية هي واحدة من الأسباب الرئيسية في عدم قابلية تطبيق قوانين العلوم الطبيعية في العلوم الاجتماعية. أي لا يمكن اعتبار الجماعات على انها مجموعة من الافراد ومجموع العلاقات القائمة بينهم في لحظة معينة. فهي أكثر من ذلك فلكل جماعة من الجماعات تقاليدها وشعائرها الخاصة, ولا بد من دراستها كما يقول التاريخيون, حتى نفهمها ونفسرها. ونتنبأ بمستقبل تطورها.


ويقولوا ان الابنية الفيزيقة هي مجرد كوكبات أي تتركب فقط من مجموع أجزاءها. فمثلا لمعرفة مجموعة شمسية, يكفي معرفة الاوضاع النسبية للاجرام وحركتها المتبادلة في لحظة معينة, للتنبؤ بجميع حركاتها. ولسنا بحاجة لمعرفة ايهما ومتى انضم الى هذه المجموعة من خارجها. أي ان تاريخها لا يضيف شيئا جديدا. وهذا يشير الى وجود ارتباط بين المذهب التاريخاني والنظرية البيولوجية او العضوية. أي تفسير الجماعات باعتبارها كائنات عضوية وليست كوكبات.
الحدس الادراكي


في الفقرات السابقة اشرنا الى بعض الوجوة الخاصة بالحياة الاجتماعية كالتعقيد والجدة والعضوية وانقسام التاريخ الاجتماعي الى فترات والكلية. وهي وجوه تمنع تطبيق القوانين الطبيعية على العلوم الاجتماعية كما يقول المذهب التاريخاني. ومن ثم يرى هذا المذهب ان هناك الحاجة الى منهج اخر اقرب الى التاريخ. وهو ادراك تاريخ الجماعات ادراكا حسيا. وهذا يعارض منهج العلوم الطبيعية, ومن وحوه هذا التعارض ما يلي:
علم الطبيعة يهدف الى التعليل العلي, أما علم الاجتماع فيهدف الى ادراك الاغراض والمعاني.
علم الطبيعة يفسر الحوادث تفسيرا كميا بواسطة الصيغ الرياضية. أما طابع الفهم للتطورات التاريخية فيكون على الغالب كيفي. فالتاريخ يعتبر صراعا بين الميول والاهداف او ما يسمى الطابع القومي او روح العصر.
علم الطبيعة يستخدم التعميم عن طريق الاستقراء. في علم الاجتماع هناك الحاجة الى مشاركة وجدانية.
علم الطبيعة يتوصل الى قوانين تفسر الحوادث الجزئية باعتبارها حالات خاصة.


لمذهب الإدراك الحسي ثلاثة صور مختلفة: الاولى معرفة الحادث اذا عرفنا القوى التي سببته. والثانية: فهم معنى وقوعه وأهميته. أي لا يكفي تحليل علل الوقائع بل أهميتها بالنسبة لتأثيرها في الكل. أما الصورة الثالثة فهي تحليل ما وراء الحدث من اتجاهات وميول تاريخية كازدهار او انحلال بعض التقاليد او الدول.
المناهج الكمية


من بين وجوة التعارض والتقابل التي يعمل على إبرازها مذهب الادراك الحسي, يقول التاريخيون ان الحوادث تفسر في علم الطبيعة بطريقة كمية بواسطة الصيغ الرياضية أما علم الاجتماع فيحاول فهم التطور التاريخي على نحو يغلب عليه الطابع الكيفي. مثلا القانون الفيزيقي القائل بانه كلما صغرت الفتحة التي يمر فيها شعاع الضوء, كلما كبرت زاوية انحرافه. وهذا القانون يعبر عنه بالصيغة التالية : في ظروف معينة ان تغير مقدار أ بكمية معينة تغير ب بمقدار يمكن التنبؤ به. وهكذا علم الطبيعة يستبدل الوصف الكيفي بوصف كمي. فإذا حاولنا تطبيق التفسير العلي في العلوم الاجتماعية, يمكننا القول مثلا انه بازدياد شدة التصنيع يزداد الميول نحو التوسع. وهذه يمكن ان تكون عبارة مفهومة ولكنها لا تصدق على الواقع. وهنا يتبين اننا لا نملك طريقة لقياس الميل نحو التوسع او قياس شدة التصنيع. وبالتالي الألفاظ التي يمكن استخدامها تكون فقط كيفية وهي ألفاظ بعيدة عن الدقة الكمية
نقد الدعاوي المعارضة للمنهج الطبيعي[4]
الأهداف العملية لها النقد


يبدأ بوبر بالقول ان العلم هو من اهم النشاطات التي عرفها الإنسان للحصول على المعرفة. ويركز على الاختبارات كأدوات لحل المشكلات العملية من جهة, ولضبط وتحفيز البحث النظري من جهة أخرى. خلافا لذلك نجد نتائج عقيمة في الدراسات النظرية وخصوصا تلك المتصلة بالعلوم الاجتماعية. وللتأكيد على أهمية المذهب العملي يشير إلى كانط الذي يقول انه إذا تركنا العنان لفضولنا لنتجاوز حدود قدراتنا فهذا لا يتنافى مع البحث العلمي, ولكن الحكمة تكمن في اختيار من بين المشكلات, المشكلة التي يهم الإنسانية حلها. بالرغم من انحياز بوبر للنزعة العملية فهو يهاجم بشدة البحث العلمي الهادف الى الاستثمار المربح فقط.


يحث بوبر على تطوير مناهج العلوم الاجتماعية من خلال عمليات المحاولة والخطأ. وينتقد بوبر المذهب التاريخاني الذي بالرغم من انه يدافع عن الاتجاه العملي في المناهج, فهو عاجز عن الوصول إلى ما يدعيه من نتائج. ويقول اننا بحاجة إلى نقد الآخرين لتتكشف أخطاءنا, بهدف اصلاح وتطوير وتجديد المناهج العملية. ومن الأمثلة عن هذا التجديد المستمر يشير إلى الربط بين المناهج السيكولوجية وتلك الاحصائية فيما يعرف بتحليل الطلب (demand analysis).
الاتجاه التكنولوجي في علم الاجتماع


يركز بوبر على نقده للمنهج التاريخاني من خلال تقديمه للمناهج الناجحة في العلوم الاجتماعية. التي تعتمد على التحليل النقدي والتي سماها "التكنولوجيا الجزئية". [5]


والتي تسمى احيانا "بالترقيع الجزئي" الذي اعتبره بوبر السبيل الرئيسي للوصول إلى النتائج العملية في العلوم الاجتماعية. التي مشكلاتها التكنولوجية يمكن ان تكون ذات طابع خاص مثل فن إدارة الأعمال, أو ذات طابع عام, مثل التأمين الصحي او تثبيت الأسعار بواسطة الردع القانوني.


ولكن الاهتمام بالتكنولوجيا العملية لا يعني استثناء الدراسات النظرية الناتجة عن تحليل المشكلات العملية.
التكنولوجيا تساعد في مهمة اختيار هذه المشكلات وفي نفس الوقت تعمل على إخضاع الميول النظري إلى الاختبار العملي وبالتالي تُجنب الوقوع في متاهات العالم الميتافيزيقي.


وبالرغم من مكافحة موقف التسليم الساذج للمذهب الطبيعي (والذي سمي موقف المذهب العلموي), فليس هناك مانع من استخدام التماثل بين العلوم ما دام هناك فائدة منها. وحتى أولئك أصحاب المذهب المعارض للتدخل العملي في حل المشاكل الاجتماعية يتصرفون بطريقة مشابهة للاتجاه التكنولوجي. لان قولهم بان التدخل العملي من شانه تحويل الأمور إلى حالات أسوأ, يعني انه لا يمكنك تحقيق كذا وكذا من الغايات بسبب كذا وكذا من النتائج المرتبة عليها. وهذا يدل على ان المذهب المعارض للتدخل يتصف بصفات المذهب التكنولوجي. والمهم هنا هو ملاحظة ألتشابهه بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية. ومن الأمثلة على هذا التشابه بين قوانين العلوم الاجتماعية وتلك الطبيعية القول بانه لا يمكنك فرض الرسوم على المنتجات الزراعية وفي نفس الوقت تقليل كلفة المعيشة. او القول انه لا يمكنك أن تقوم بثورة دون أن ينشأ عنها أثر رجعي. او لا يمكنك أن تمنح صلاحية لشخص دون ان يغريه ذلك بإساءة استخدامها. وهذه هي أمثلة تحاول التكنولوجيا الجزئية حلها.
الهندسة الجزئية والهندسة اليوتوبية


الهندسة الاجتماعية الجزئية تدل على التطبيق العملي لنتائج التكنولوجيا الجزئية. وهو مصطلح ينطبق على العام والخاص من الأعمال الاجتماعية التي تستخدم عن وعي المعرفة التكنولوجية للوصول إلى غايات محددة. هذه الغايات تعتبر, كما في الهندسة الفيزيقية, أمورا خارجة عن نطاقها, أي إذا ما كانت ممكنة. أما في المذهب التاريخي فالغايات تعتبر داخلة في نطاقه.


المهندس الفيزيقي يصمم الآلات ويجدد نوعها ويقوم بصيانتها وا صلاحها. وبالمثل المهندس الاجتماعي الجزئي, يصمم النظم الاجتماعية الجديدة ويعيد تركيب ما هو موجود منها سابقا. هذه النظم تشمل الخاص والعام من ألدكانه الصغيرة حتى شركة التامين, وتنطبق على الخدمات الاجتماعية من مدارس وجامعات وأماكن للعبادة ... الخ. وهنا بالرغم ان المهندس الجزئي يعلم بأن معظم هذه النظم ليس مصمم عن, فهو يعتبرها ألات تحقق غايات معينة او يمكن تحويلها لخدمة غايات اخرى.
المهندس الجزئي يدرس النظم الاجتماعية ويضع الفروض في الصيغة التكنولوجية. مثلا: لا يمكنك إنشاء نظم خالية من الفساد لأنها تعتمد في تشغيلها على العنصر الشخصي. فالغاية هنا تقليل بقدر المستطاع الآثار الغير مؤكدة المتصلة بهذا العنصر.
وفي هذا الصدد يقول بوبر ان النظم كالحصن ليست بحاجة الى تصميم محكم فقط, بل أيضا الى جند صالحين.


يتميز موقف المهندس الجزئي بانه لا يؤمن بالإصلاحات التي ترمي إلى تغيير المجتمع ككل, فهو يحقق أهدافه من خلال التعديلات الجزئية. مثله مثل سقراط يعلم انه لا يعلم الا القليل. ويؤمن بان الأخطاء هي السبيل الوحيد للمعرفة. ولهذا السبب فهو يتلمس طريقة خطوة خطوة ويقارن في كل مرحلة النتائج المتوقعة بالنسبة للنتائج الفعلية, منتظرا دوما تلك الغير مرغوب فيها. أما الإصلاحات واسعة النطاق المعقدة حيث من الصعب التمييز بين العلل والمعلولات فهو يمتنع عن الخوض فيها.


هذا الترقيع الجزئي لا يتفق مع الهندسة اليوتوبية التي طابعها دائما عام. أي التدخل لتغيير المجتمع ككل وفقا لخطة محددة. بالرغم من رفض التكنولوجي الكلي للطريقة الجزئية فأنة يستخدمها ولكن بطريقة اعتباطية. أي كلما كثرت التغييرات الكلية زادت النتائج الغير متوقعة. فيحاول ارتجالا اعتماد طرق جزئية غير مخطط لها لإصلاح ما يمكن إصلاحه. فالفارق بين المنهجين ليس في سعة التطبيق ولكن في الاستعداد للامور المفاجئة التي لا مفر منها.
وفارق اخر مهم هو ان المهندس الجزئي لا يجزم على المدى الذي يمكن أن يصل إليه الإصلاح. خلافا للمهندس الكلي الذي منذ البداية يهدف الى ضرورة إعادة بناء المجتمع ككل, متجاهلا في ذلك المشكلات المترتبة على العامل الإنساني. ولهذا فهو مضطر بعد ذلك لتوسيع نطاق تدخله ليشمل ليس فقط تغير المجتمع ككل, بل أيضا تغيير الانسان ليتلاءم مع هذا المجتمع الجديد.
والجدير بالذكر هنا القول بان المذهب اليوتوبي لا يماثل المذهب التاريخاني في معاداته للاتجاه الجزئي فقط, بل أيضا في دمجه للفكر الأيديولوجي.
التحالف الشائن مع اليوتوبية


صاحب المذهب التاريخاني ذات اتجاه كلي. وتتضح النزعة الكلية في اتجاة مل (Mill) في عبارات مثل حالة المجتمع و الفترة التاريخية. ويصف حالات المجتمع بالجسم فهي ليست احوال الاعضاء بل أحوال الجسم ككل. وهذه النزعة الكلية هي الفارق الأساسي بين المذهب التاريخاني والتكنولوجيا الجزئية. وهي التي تسمح بالتحالف بين هذا المذهب والهندسة الاجتماعية الكلية (او اليوتوبية). فكلاهما يهتم بتطور المجتمع ككل. والذي يزعجهما هو التغيير الذي يصيب البيئة الاجتماعية. الذي يحاولان تفسيره عقليا, فيتنبأ الاول بمستقبل مجرى التطور الاجتماعي, ويلح الاخر على وجوب التحكم به او ربما ايقافه. واختلاف كل من اليوتوبي والتاريخاني عن المهندس الجزئي يكمن في الاعتقاد في قدرته على اكتشاف اهداف المجتمع, بتعين مثلا اتجاهات المجتمع التاريخية او متطلبات العصر. فنجد الكتاب الداعيين الى التخطيط اليوتوبي يقولون بانه لا مفر من تخطيط مسار التاريخ. وان مهمتهم تحطيم العادات الفكرية القديمة والكشف عن وسائل لفهم العالم المتغير. ويقولون ان التغيرات الاجتماعية لا تكون ناجحة الا إذا تخلينا عن الطريقة الجزئية, أو طريقة المحاولة والخطأ.






مصادر وحواشي


1. ^ Sintesi di Miseria dello storicismo di Karl R. Popper. Erika Panaccione


2. ^ نظرية الغَشتَلت وضعتها مدرسة برلين تشكل نظرية حول العقل والدماغ تفترض أن المبدأ العملي للدماغ كلاني، متوازي ومتماثل مع ميل للتنظيم الذاتي أو أن مجموع كل الأجزاء أقل من أداء الكل)


3. ^ محطم الفلاسفة. محيي الدين اللاذقاني


4. ^ المنهج الطبيعي او الطبيعية الوجودية هي فلسفة تهتم بفهم العالم ودور الانسان فيه. وتخلص الى ان الطبيعة هي كل ما هو موجود, والمكونة من اجسام وقوى واسباب تدرسها العلوم الطبيعة. التي لا تشمل الرياضيات بالرغم من العلاقة الوثيقة بينهما. العلوم الطبيعية (الفلك, علم الأرض, علم الاحياء, الكيمياء والفيزياء ...) تهتم بشرح العالم والظواهر الموجودة فيه محاولة الابتعاد عن التفسيرات الغيبية. ويمكن التعبير عن هذه الظواهر من خلال نماذج رياضية أو قوانين. الطبيعية الوجودية تعد امتداد للمنهج العلمي التجريبي. الذي نعتبره الطريقة الوحيدة للحصول على المعرفة.


5. ^ موقع: وجهات نظر. عنوان المقال: مئـويـة كارل بوبـر.. قـرن تـوهـج فيه التفكير الـعـلمى.
الهندسة الاجتماعية الجزئية, تتعلق بالانعكاسات الإيجابية للتفكير العلمى على الرؤى السياسية والاجتماعية.
نقد بوبر الماركسية والمجتمع المغلق, لما فيه من نزعة يوتوبية كلية. لأنها تتناقض مع النزعة العلمية ومرتبطة بالتاريخانية. افترضت الماركسية أنها بضربة واحدة سوف تقلب التطور التاريخي للوصول إلى المرحلة اليوتوبية المتمثلة بجنة الكادحين على الأرض, صارفة الانتباه عن الطابع المرحلي لكل بناء معقد، وعن مشاكل أخرى غير متوقعة تتولد نتيجة الحلول المزعومة, كما يعلمنا منهج التفكير العلمي. بالرغم من حسن نوايا النداءات اليوتوبية التي تحرك العواطف وتوجه رأى المجتمع بأسره نحو هدف وحيد, إلا أنها تجلب الجحيم إلى الأرض. لأن حيوية الواقع تأبى الانصياع لقوانين هندسة كلية شمولية تأتينا بكل ما نريد جملةً وتفصيلاً.
ولهذا ينبغي تغيير الأوضاع وحل المشكلات التي تواجه المجتمع للاقتراب قدر الإمكان من الأهداف المنشودة والمثل العليا. ولكن ليس بالأسلوب الكلى الشمولي، والتخطيط المركزي. التي رفضها بوبر بشدة لانها تهتم بإنشاء أو تعديل نظم ومؤسسات اجتماعية وفقاً لخطة تحول المجتمع بأسره من وضع إلى وضع بضربة واحدة.
فى مقابل هذا الهندسة الاجتماعية يمكن ان تكون جزئية تهدف مثلاً إلى مكافحة البطالة أو مرض متوطن، أو تطوير نظام تعليمى...إلخ. ولما كانت كل محاولة فى واقع الإنسان لابد أن يشوبها خطأ ما كما يعلمنا التفكير العلمى، فإن مخطوطات الهندسة الجزئية تجعل الخطأ بدوره محدود واقل خطرا من التخطيط الكلى. لانها تتلمس الطريق خطوة خطوة، وتبحث في جميع الآراء للوصول إلى أفضل الحلول، وتترقب ظهور نتائج غير متوقعة فى أي عملية إصلاح إنسانية. وترفض حتمية التاريخ لتترك المجال مفتوح لأي مستجدات. وهكذا فالهندسة الاجتماعية تكون قريبة من روح المنهج العلمى، ويمكن اعتبارها كأسس للسياسة العلمية، لأنها تتوقف على السياسة الواقعية الضرورية لتشييد أو تعديل أو تبديل المؤسسات الاجتماعية وفقاً لأهداف المجتمع. وتخبر بالخطوات الفعلية التي يجب اتخاذها لتفادى كساد مؤسسة ما، أو عدالة توزيع الربح الناتج عن مؤسسة أخرى.
المهندس الاجتماعي هنا يتصور شيئاً ما يشبه التقانة الاجتماعية من قبيل تصميم النظم والمؤسسات الاجتماعية الجديدة، وتشغيل وإعادة تركيب ما هو موجود فعلاً. النظم الاجتماعية هنا تستعمل بمعنى واسع، فتشمل الهيئات الاجتماعية العامة والخاصة، أى عمل تجارى كبير أو صغير، شركات التأمين والمصارف، الشرطة، مؤسسات الخدمات التعليمية والصحية، الهيئات الدينية والقضائية والإعلامية...إلخ, كلها تتناولها الهندسة الاجتماعية الجزئية بوصفها وسائل علينا أن نجعلها تحقق أهدافاً معينة، ونحكم على كلٍّ منها على حدة تبعاً لملاءمتها وقدرتها على تحقيق الهدف منها.
طرح بوبر تصوره للهندسة الاجتماعية الجزئية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، في محتدم الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، فبدت كأسلوب ترقيع جزئي متواضع، عزف عنه المتحمسون للإصلاح والكمال الكلي.
لقد شهدت بدايات القرن العشرين انتهاء الرأسمالية المطلقة، رأسمالية "دعه يعمل.. دعه يمر.. إن العالم يسير من تلقاء نفسه" بلا أي تخطيط أو تدخل من الدولة. إنها الرأسمالية. التي كانت سائدة في عصر الثورة الصناعية وحاربتها الاشتراكيات الصاعدة آنذاك، وتنبأ ماركس بأفولها، وهذه هي نبوءته الوحيدة التي تحققت وإن لم تحل محلها الشيوعية كما زعم. على أية حال كان اختفاء تلك الرأسمالية المتطرفة أو تكييفها أو تعديلها تقدماً إيجابياً بلا شك. وبوبر نفسه يعلن ارتياحه لانتهاء مثل هذه الرأسمالية.
ومثلما شهدت بدايات القرن العشرين انتهاءها، شهد العقد الأخير منه نهاية الاشتراكيات المتطرفة وانهيار الأنظمة الشمولية المغلقة باسم الاشتراكية فى شرق أوروبا. لقد ثبت فشل التطرف من كلا الاتجاهين. وهنا تتقدم الهندسة الاجتماعية الجزئية وفق أهداف ومثل عليا، وتبدو حلاً في متناول كل الأطراف. إنها فكرة عالجها فيلسوف ليبرالي اقترن اسمه بتطوير ليبرالية النصف الثاني من القرن العشرين فى اتجاه خطوط الاشتراكية الديمقراطية، وقبل وفاته بعامين قال إنه دائماً اشتراكي، بمعنى إحساس العاقلين بالمسئولية تجاه الآخرين الأقل منهم حظاً ونصيباً في الحياة، بيد أن البشر للأسف لا تحركهم مثل هذه الدوافع النبيلة.
لهذا نجد الهندسة الاجتماعية الجزئية قد أتت فى جوهرها أقرب إلى الاشتراكية الديمقراطية التي عرفت كيف تزرع القيم الاشتراكية فى صلب الحضارة الإنجليزية ـ معقل الرأسمالية.
ونختم رحلتنا في بعض زوايا الفلسفة البوبرية بأن زعماء كلا الحزبين يقرون بأنهم متأثرون ببوبر وبفلسفته السياسية والاجتماعية كأول تطوير حقيقي وتغيير لمسار الليبرالية منذ وفاة جون ستيوارت مل، أيضاً فى انجلترا العام 1873.
بين التطرف الرأسمالي والتطرف الاشتراكي, ظهر الطريق الثالث الذي كاد ان يفرض نفسه حتى ظهور العولمة التي تنذر بابتلاع كل ما عداها. ودون أن ندور في متاهاتها نكتفي بإيجابيات التفكير العلمي التي تمثلت في الهندسة الاجتماعية الجزئية، كآلية فعالة في صلب الطريق الثالث، الذي يبدو طريقاً مربحاً لكلا الجانبين.
تميـز القـرن العشـرون ببداية حاســمة جعلته نقطـة تحـول في مسـار العــلم والتفكير العلمي. حتى أننا لو كشـفنا القصة كلها منذ الأميبا حتى آينشتين لوجدناها تعرض النمط نفسه: حل المشكلات عن طــريق آليـة المحاولة والخطأ. الحقيقة المطلقة لن يعلمها إلا خالق الكـــون، وليس على الإنسـان إلا أن يحاول، وليس العلم إلا محاولات لحل مشاكل نظرية وتطبيقية، محاولات ناجحة، تفتح الطريق لمحاولات أخرى أنجح. كل إجابة يطرحها العلم يطرح معهـــا تساؤلات أبعد، فيؤدى كل تقدم إلى تقدم أبعد.






آخر تعديل لهذه الصفحة في 22:16، 26 ديسمبر 2012.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق