التقنية هي "إجراء تلقائي ومتكرر للحصول على مجموعة من الأهداف، وتسهيل المهام التي خلافا ذلك مستحيلة أو صعبة، مثلا تعليق صورة على الجدار يتطلب مسمار ومطرقة، المسمار لتعليق اللوحة على الجدار، والمطرقة لادخال المسمار في الحائط. وبالمثل للتواصل مع شخص آخر بعيد، نحتاج الى وسيلة اتصال كالهاتف، والإنترنت، وكما المسمار والمطرقة تمثلان وسائل تزيد من قوتنا المادية، فكذلك الهاتف يمثل امتداد لحاسة السمع والبصر والقدرة على الكلام. ولذلك فمعنى الوسيط يكمن في تنفيذ مهام أكثر أو أقل ضرورية لحياتنا. ولكن خطرالتقنية قد يكمن في أن تصبح هي الهدف في حد ذاتها.
la tecnica e' una procedura automatica per ottenere degli obiettivi prefissati, per facilitare dei compiti che altrimenti sono impossibili o difficili, come ad esempio appendere un quadro sul muro necessita di un choido e di un martello, i; chiodo per tenere il quadro attaccato al muro, e il martello per fissare il chiodo al muro. e per comunicare con un altra persona distante, ci sviamo del telefono, o di altri mezzi di comunicazione come internet, e come il chiodo e il martello sono mezzi che ingrandiscono il nostro potere fisico, anche il telefono e' un mezzo che rappresenta il prolungamento del senso del udito e la vista e la capacita di parlare. quindi il senso del mezzo e' quello di svolgere dei compiti piu o meno indispensabili per la nostra vita. allora quale può essere il pericolo della tecnica.
diveta un percolo quando il mezzo stesso diventa l'obiettivo,
----
مسألة التقنية/ هيدجر
e da tempo che noi studiamo che l'essenza della della cosa e' quello che e', e quando chiediamo cosa e' essenza della tecnica , ci sono due risposte,la prima e' che la tecnica e' un mezzo per realizzare degli obiettivi; e la seconda risposta e' che tecnica e' una competenza del uomo. e queste due risposte si rafforzano a vicenda, perche mettere obiettivi e forma e usare mezzi , sono tutti dei fatti del uomo, come anche fabbricare e usare strumenti e dispositivi sono una parte dell'essenza della tecnica. e la somma di queste strumenti e' la tecnica, ma anche essa stessa e' un strumento. possiamo chiamare la percezione attuale della tecnica, secondo il quale la tecnica e; un mezzzo e un atto, come una percezione antropologica e strumentale. e chi puo negare l'esattezza di questa percezione ?. e' una percezione giusta in apparenza tutto quello che vediamo e quando parliamo di tecnica. ed e' anche giusto in modo preoccupato quando viene applicato alla tecnica moderna. perche questa percezione e' diversa dalle tecnica manuali del passato. per esempio se prendiamo la stazione di elettricita vediamo che e' con tutte le sue parti un mezzo cotruito dal uomo per un fine che ha messo il uomo. e come anche la stazione ad alta frequenza richiede varie specializzazioni , e il negozio del falegnamen in una foresta e 'un mezzo primitiva rispetto alla stazione elettrica, e quindi rimane che anche la tecnica moderna e' un mezzo per giungere a degli obiettivi. quindi vediamo che la percezione strumentale indirizza tutto lo sforzo per mettere il uomo in relazione corretta con la tecnica. e il coretto uso di questa tecnica come un strumento e' il punto crociale in questo tentativo. e quindi volgiamo come si dice controllare la tecnica e indirizzarla verso obiettivi spirituali. vogliamo diventare i padroni della tecnica. e questa volonta diventa urgente quando la tecnica minaccia di sfuggire al nostro controllo.
pero poniamo adesso che la tecnica non e' un strumento, allora cosa rimane alla volontà da controllare. e con cio' rimane giusta la percezione strumentale della tecnica. lo sguardo giusto nota sempre cose giuste che nelle cose che abbiamo avanti , pero per essere tale non richiede di rilevare della essenza. e solo quando avviene questa rilevazione appare quello che e' reale. quindi quello che e' giusto non e' arrivato ancora ad essere reale. e questo ultimo e' quello che ci mette in relazione libera con chi ci discute partendo dalla sua essenza. anche se la percezione strumentale della tecnica era giusta, pero non ci ha rivelato la sua essenza. e quindi per andare verso essa o almeno avvicinarsi, dobbiamo cercare il vero attraverso il preciso. e dobbiamo chiederci del carattere strumentale? . e come si relazionano le cose come il mezzo e con la fine,. con il mezzo realizziamo ed otteniamo una cosa. e se ha effetto lo chiamiamo causa. ma la cosa che fa da mediante per fare un'altra cosa, non e' sufficiente chiamarlo da solo causa. ed il fine che secondo il quale si definisce la natura dei mezzi, puo essere considerata anche essa causa. e dove i fini diventano dei questioni di ricerca e i mezzi dei questioni d'uso, e dove gli strumentazione e' dominante, allora li domina pure la causa.
ce un articolo analogo qua
مسألة التقنيةمارتن هيدجر
ترجمة: د. محمد سبيلا
فيما يلي نتساءل حول موضوع التقنية. أن نتساءل هو أن نعمل على إعداد طريق وأن نشيده. لهذا فمن المناسب أن نفكر قبل كل شيء في الطريق وألا نرتبط باقتراحات أو تسميات خاصة. الطريق هو طريق الفكر. كل طرق الفكر تقود، بكيفية غير واضحة وبممرات غير معتادة، عبر اللغة. إننا نسل في موضوع التقنية ونريد بذلك أن نقيم علاقة حرة معها. والعلاقة تكون حرة، عندما تفتح كينونتنا على ماهية التقنية. إذا قدمنا جوابا حول هذه الماهية نستطيع عندئذ أن نعي النزعة التقنية Technicité في حدودها.
التقنية وماهية التقنية ليسا نفس الشيء. عندما نبحث في ماهية الشجرة علينا أن نفهم أن الذي يحكم كل شجرة باعتبارها شجرة، ليس هو ذاته شجرة يمكن أن نصادفها ضمن أشجار أخرى. وبالمثل فإن ماهية التقنية ليست مطلقا شيئا تقنيا. وهكذا فإننا لن ندرك أبدا علاقتنا بماهية التقنية طالما اقتصرنا على تمثلها وممارستها، وعلى محاولة التلاؤم معها أو الهروب منها. ومهما فعلنا فسنبقى خاضعين للتقنية ومحرومين من الحرية سواء دافعنا عنها بانفعال أو أنكرناها. ومع ذلك فعندما نعتبر التقنية بمثابة شيء حيادي نكون عندئذ قد استسلمنا لها وبأسوأ الأشكال: لأن هذا التصور الذي حظي اليوم بحظوة خاصة يجعلنا عميانا تماما تجاه ماهية التقنية. ومنذ مدة ونحن ندرّس بأن ماهية الشيء هي ما هو هذا الشيء. نتساءل حول التقنية، عندما نسأل ما هي التقنية. وكل واحد يعرف الإجابتين الجاهزتين عن هذا السؤال. قول الإجابة الأولى: إن التقنية وسيلة من أجل تحقيق بعض الغايات. أما بالنسبة للثانية: فالتقنية فعالية خاصة بالإنسان. هاتان الطريقتان في تحديد التقنية متعاضدتان، وذلك لأن وضع غايات، وتكوين واستعمال وسائل كل ذلك يعد من أفعال الإنسان، كما أن صنع واستعمال آلات وأجهزة وأدوات يعد جزءا من ماهية التقنية. هذه الأشياء المصنوعة والمستخدمة، بالإضافة إلى الحاجيات والغايات التي تحققها، كلها تشكل جزءا من ماهية . إن التقنية هي مجموع هذه المعدات، بل هي ذاتها عدة (باللاتينية نقول أداة: Instrumentum ).
يمكن أن نسمي التصور الجاري للتقنية، والذي بمقتضاه تكون التقنية وسيلة وفعالية إنسانية، بالتصور الأداتي والأنتروبولوجي للتقنية.
من يريد أن ينكر صواب هذا التصور؟ إنه تصور يناسب بشكل ظاهر كل ما نراه ونحن نتكلم عن التقنية: بل إن التصور الأداتي للتقنية صائب بطريقة أقل جلبا للاطمئنان بقدر ما يكون مطبقا على التقنية الحديثة؛ التي نؤكد عنها من جهة أخرى، ومعنا بعض الحق في ذلك، أن هذا التصور مختلف تماما وبالتالي جديد بالقياس إلى التقنية اليدوية السابقة. لنأخذ مثلا محطة مولدة للكهرباء، سنرى أنها هي أيضا بأسطواناتها ومولداتها، وسيلة شيدت من طرف الإنسان لأجل غاية وضعها الإنسان. أما الطائرة النفاثة، أو الآلة ذات التواتر العالي فهما أيضا وسيلتان من أجل تحقيق غايات. من الطبيعي أن نرى أن محطة الرادار هي وسيلة أكثر تعقيدا من طاحونة الهواء، كما أن بناء آلة ذات تواتر عال يتطلب تضافر مختلف أشكال التقنية الصناعية. وبالطبع فمعمل نشارة خشب صغير يعمل في واد مجهول بالغابة السوداء، سيكون وسيلة بدائية بالمقارنة مع المحطة الكهربائية "للراين".
يظل من الصائب أن التقنية الحديثة هي أيضا، وسيلة من أجل تحقيق غايات. لهذا نرى أن التصور الأداتي للتقنية يوجه كل الجهد ليضع الإنسان في علاقة صائبة مع التقنية. إن الاستعمال الجيد لهذه التقنية على أنها وسيلة هو النقطة الجوهرية في هذه المحاولة. لهذا نريد -كما يقال- أن نتحكم في التقنية ونوجهها لصالح غايات "روحية". نريد أن نصبح سادة عليها. إن إرادة السيادة هاته تصبح أكثر إلحاحا كلما هددت التقنية أكثر بالانفلات من مراقبة الإنسان.
لكن لنفترض الآن أن التقنية ليست مجرد وسيلة: ما هي الحظوظ التي تتبقى للإرادة في أن تتحكم فيها؟ مع ذلك نقول بأن التصور الأداتي للتقنية كان صحيحا، وهو ما زال كذلك. إن النظرة الصحيحة تلاحظ دوما، فيما هو أمامنا، شيئا ما صائبا. لكن تكون الملاحظة صحيحة فهي لا تحتاج لكشف ماهية ما هو أمامنا، هناك فقط عندما يحدث مثل هذا الانكشاف يتجلى ما هو حقيقي. لذلك فإن ما هو دقيق فقط لم يصل بعد إلى كونه هو الحقيقي. هذا الأخير هو وحده الذي يضعنا في علاقة حرة مع هذا الذي يخاطبنا انطلاقا من ماهيته الخاصة. إن التصور الأداتي للتقنية، رغم صحته لم يكشف لنا بعد عن ماهيتها. لكي نسير نحوها، أو على الأقل لنقترب منها، علينا أن نبحث عن الحقيقي عبر الدقيق، وعلينا أن نسأل ما هو الطابع الأداتي ذاته؟ ولِم تتعلق أشياء مثل: الوسيلة والغاية؟ تعني الوسيلة ما به ننجز ونحصل على شيء ما. أما ما يكون له مفعول كنتيجة فنسميه علة. لكن الشيء الذي بواسطته يكون شيء آخر قد أنجز لا يكون وحده كافيا ليسمى علة. الغاية التي بموجبها تتحدد طبيعة الوسائل هي أيضا تعتبر بمثابة علة. هناك حيث تصبح الغايات موضع بحث والوسائل موضع استعمال، وحيث تكون الأداتية سائدة، هنا أيضا تسود العلية.
تعلمنا الفلسفة منذ قرون بأن هناك أربع علل.
1 - العلة المادية: مثلا المادة التي نصنع بها كأسا من الفضة
2 - العلة الصورية: الشكل الذي تدخل فيه المادة.
3 - العلة الغائية: مثلا الغاية التي بها يتحدد كل من مادة وشكل الكأس التي نحن بحاجة إليها.
4 - العلة الفاعلة: أي تلك التي تصنع النتيجة أي الكأس الواقعية المكتملة: الصائغ. ستنكشف لنا ماهية التقنية متمثلة كوسيلة، عندما نرجع الأداتية إلى العلة الرباعية.
لكن إذا كانت العلية، من جهتها، تخفي في الظلام ما هي فالحق، أنه منذ قرون، ونحن نتصرف وكأن نظرية العلل الأربع حقيقة نزلت من السماء، وأنها واضحة وضوح النهار. غير أنه ستأتي المناسبة لنتساءل: لماذا هناك بالتدقيق أربع علل؟
وعندما نتحدث عن العلل ماذا تعني بالضبط كلمة "علة"؟ انطلاقا من ماذا يتحدد الطابع العلي للعلل الأربع الذي يجعل هذه العلل متضامنة الواحدة مع الأخرى؟
ما لم نواجه هذه المسائل أي: العلية ومعها الأداتية، ومع هذا: التصور الجاري للتقنية، فستبقى هناك مسائل غامضة وعائمة.
لقد تعودنا، منذ مدة طويلة على أن نتصور العلة بأنها الشيء الذي يفعل ويُحدث. يعني الفعل أحدث هنا: أحرز على نتائج. إن العلة الفاعلة، من ضمن العلل الأربع، هي التي تطبع العلية بطريقة محددة. هذا إلى درجة أننا لا ندخل في الحسبان العلة الغائية. إن الكلمتان (Causa-Casus ) (تعنيان العلة باللغة اللاتينية) ترتبطان بالفعل (Cadere ) ويعني سقط. وهما يعنيان: هذا الذي يعمل بطريقة معينة، بحيث أن شيئا ما "يحدث" في النتيجة بشكل أو بآخر. نشير إلى أن نظرية العلل الأربع ترجع إلى أرسطو. لكن في كل الحقب اللاحقة لليونان، التي تبحث تحت تسمية أو تمثل العلية، نلاحظ أنه ليس للعلية في الفكر اليوناني، أي شبه مع معنى الإنجاز والإحداث. إن الفعل الذي نسميه نحن علة، والذي سماه الرومان Causa يسميه اليونان: "الفعل الذي يستجيب لـ...". هناك مثال يمكن أن يوضح ذلك:
الفضة هي ما أصنع به كأس الفضة. ومن حيث هي تلك المادة فإنها مشاركة في مسؤولية صنع الكأس. والكأس مدينة للفضة بما صنعت به. لكنها لا تبقى مدينة فقط للفضة. إن ما هو مدين للفضة، من حيث هو كأس، يبدو في مظهره الخارجي على شكل كأس وليس على شكل إبزيم أو حلقة حديدية، فهو مدين إذن في نفس الوقت لهيأة (Idéa : فكرة بالمعنى اليوناني) شكله ككأس. إن الفضة التي دخلت فيها هيأة الكأس، والهيأة التي في شكلها يظهر شيء الفضة، هما معا، بطريقتهما، مسؤولان عن الكأس مسؤولية مشتركة.
هناك عامل ثالث يبقى، قبل أي شيء مسؤولا عن الكأس، وهو ما يدرجه مسبقا في عملية التكريس والهبة. وهكذا يكون معرفا كشيء قرباني. إن ما يعرّف الشيء يتممه، والشيء لا ينتهي مع هذه "الغاية" بل يبدأ انطلاقا منها على أنه هو ما سيصحبه الشيء بعد صنعه. هذا الذي يتمم ويكمل يقال له باليونانية (تيلوس)، وهي كلمة تترجم في الغالب بكلمة "هدف" و"غاية"، وهو ما يقودنا إلى تأويل خاطئ. إن التيلوس هو المسؤول عن المادة وعن الهيئة اللذين يشاركان معا في مسؤولية صنع كأس القربان.
في الأخير هناك عامل رابع، يتكفل هو أيضا بإحضار وإنجاز كأس القربان المكتملة: إنه الصائغ. لكن ليس بمعنى أن الصائغ قد صنع، بعمليته هاته، كأس القربان المكتملة كنتيجة لصناعته، أي ليس مطلقا كعلة فاعلة.
لا تعرف نظرية أرسطو العلة التي يشير إليها هذا الاسم كما أنها لا تستعمل لفظا إغريقيا معادلا.
الصائغ يعتبر ويجمع الأنماط الثلاثة المذكورة "للفعل الذي نستجيب له". الفعل "اعتبر" يعبر عنه في اليونانية بجمع وضم، ويرتبط بفعل الإظهار. إن الصائغ هو المسؤول المشارك وكأنه ما يجد ويحافظ، انطلاقا منه، إنتاج كأس القربان وارتكازه على ذاته، انبثاقهما الأول. إن الأنماط الثلاثة المذكورة سابقا للفعل الذي نستجيب له مدينة لتفكير الصائغ في ظهورها وفي دخولها عملية إنتاج الكأس، إنها مدينة له أيضا بالكيفية التي صنع بها.
ها هي كأس القربان حاضرة وتحت تصرفنا، موجهة بالأنماط الأربعة "للفعل الذي نستجيب له" ولو أن الأنماط مختلفة فيما بينها، فهي تبقى، مع ذلك، مترابطة بعضها ببعض. ما الذي يوجدها مسبقا؟ في أي مجال تدور اللعبة المزعجة للأنماط الأربعة "للفعل الذي يستجيب لـ..."، من أين تنحدر وحدة العلل الأربع؟ بتعبير يوناني ماذا يعني "الفعل الذي نستجيب له.."؟
نحن بدورنا أبناء اليوم، نميل بسهولة لفهم "الفعل الذي نستجيب له" بطريقة أخلاقية، أي نعتبره كنقص، أو مؤوله كنوع من عملية تطبيقية. في كلتا الحالتين نسد الطريق المؤدية إلى المعنى الأول الذي سمي بالعلية. لهذا طالما لم ينفتح لنا هذا الطريق لن ندرك ما هي بالضبط هذه الأداتية التي تكمن في العلية.
لكي نتحصن ضد هذه التأويلات الخاطئة "للفعل الذي نستجيب له" نستوهم أنماطه الأربعة، منطلقين من هذا الذي يتعين عليها أن تستجيب له. نتابع مثالنا ونقول: تتكفل الأنماط الأربعة بكون كأس الفضة هي أمامنا وتحت تصرفنا كشيء يصلح للاستعمال في طقس القربان. تحدد هذه الأفعال معنى أن يكون الشيء أمامنا، وتحت تصرفنا وهذا هو ما يسم حضور شيء حاضر. إن الأنماط الأربعة "للفعل الذي نستجيب له.." تقود شيئا ما نحو "ظهوره". إنها تتركه يحدث ويحصل و"أن يكون قريبا من". إنها تحرره في هذا الاتجاه وتتركه يتقدم في مجيئه الكامل. إن للفعل الذي تستجيب له السمة الأساسية المتمثلة في هذا الترك للشيء يتقدم في مجيئه. بهذا المعنى أي ترك الشيء يتقدم يكون "الفعل الذي نستجيب له.." هو "الإتيان ب". ونحن نأخذ بعين الاعتبار شعور اليونان تجاه "الفعل الذي يستجيب لـ..." سنعطي الآن لكلمة الإتيان ب بمعنى أوسع "عن المعنى المعتاد" بحيث يعبر عن ماهية العلية كما فكر فيها اليونان. وعلى عكس ذلك فإن الدلالة المتداولة والضيقة لـ"كان مناسبة لـ" لا تذكرنا بأكثر من صدمة أولية واندلاع، ويشير إلى نوع من العلة الثانوية ضمن مجموعة العلل.
في أي مجال تتحرك اللعبة المتوافقة للأنماط الأربعة للإتيان بـ؟ إنها تترك ما ليس بعد حاضرا، يصل في الحضور. وهكذا فالعلل الأربع محكومة بفعل اقتياد، يقود شيئا حاضرا نحو "الظهور". في عبارة من محاورة "المأدبة" يقول لنا أفلاطون ما هو فعل الاقتياد هذا: "كل إتيان بـ أيا كان - يمر ويتقدم من اللاحضور إلى الحضور، هو "إنتاج".
النقطة الجوهرية هنا هي أن نأخذ كلمة الإنتاج في كل مداها، وفي نفس الوقت بالمعنى الذي نسبه لها اليونانيون. ليس الإنتاج هو فقط الصناعة الحرفية، وليس هو فقط الفعل الشعري والفني الذي يظهر ويخبر على شكل صورة. إن الطبيعة (بالمعنى اليوناني أي الفيسيس) التي عن طريقها ينفتح الشيء من تلقاء ذاته هي أيضا إنتاج. بل هي ذاتها إنتاج بأرقى معاني الكلمة. لأن ما هو حاضر يملك في ذاته إمكانية الانفتاح (المتضمنة) في الإنتاج، مثلا الإمكانية التي لدى الوردة في أن تتفتح في ازدهارها. على العكس من ذلك فإن ما أنتج من طرف الصائغ أو الفنان ككأس الفضة مثلا، لا يملك في ذاته إمكانية أن ينفتح (المتضمنة في) الإنتاج، بل إنه يملكها عبر الآخر، أي عبر الفنان أو الصانع.
إن أنماط الإتيان ب أي العلل الأربع تقوم بعملها إذن داخل عملية الإنتاج. وبفعل عملية الإنتاج يظهر إلى الوجود، في كل مرة، سواء ما ينمو في الطبيعة أو ما تصنعه الحرف والفنون.
لكن كيف حدث هذا الإنتاج سواء في الطبيعة أو في الصناعة؟ ما هو هذا الإنتاج الذي تتحرك فيه الأنماط الأربعة للإتيان ب؟
يتعلق الإتيان ب بحضور كل ما يظهر في عملية الإنتاج. إن الإنتاج ينقل الشيء من حالة الاختفاء إلى حالة عدم الاختفاء. فهو إذن يستحضر ويقدم. لا يحدث فعل الإنتاج هذا إلا بقدر ما يقود شيئا من الاختفاء إلى خدم الاختفاء. يستند فعل الوصول هذا، ويجد نفسه فيما نسميه بالانكشاف (الكلمة تعني هنا فعل الخروج من الغياب والتستر). لقد سمى اليونان هذا الانكشاف باسم الأليتيا وهي كلمة ترجمها الرومان بحقيقة Veritas . نحن الألمان نقول Wahrheit )حقيقة) ونفهم منها عادة دقة أو صواب التمثل.
أين نحن تائهون؟ تساءلنا عما هي التقنية، وها نحن الآن أمام الأليتيا، أمام الانكشاف. ما علاقة ماهي التقنية بالانكشاف؟ الجواب هو أنها تلتقي معه في كل شيء. لأن كل إنتاج يجد أساسه في الانكشاف. غير أن هذا الأخير تتجمع فيه الأنماط الأربعة للإتيان بـ أي العلية، ويحكمها في مجال الانكشاف تدخل الغايات والوسائل والأداتية أيضا، وهذه تعتبر البعد الأساسي للتقنية. إذا دققنا بهدوء، سؤالنا، وتساءلنا ما هي بالضبط هذه التقنية المفهومة كوسيلة عندئذ سنصل إلى الانكشاف، الانكشاف وفيه تكمن إمكانية كل عملية صنع منتجة.
هكذا ليست التقنية وسيلة فحسب، بل هي نمط من الانكشاف. إذا اعتبرناها كذلك، سينفتح لنا بالنسبة بالنسبة لماهية التقنية مجال مخالف تماما. إنه مجال الانكشاف، أي مجال الحقيقة.
هذا المنظور يدهشنا، ينبغي أن يدهشنا لأطول مدة ممكنة، وبطريقة ملحة، ليدفعنا في الأخير إلى أن نطرح، بجدية هذا السؤال البسيط: ماذا تعني إذن الكلمة "تقني". تنحدر هذه الكلمة من كلمة يونانية أخرى هي "تيكنيكون" وهي تعني الشيء الذي ينتمي للتقنية. لفهم معنى هذه الكلمة الأخيرة، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار نقطتين: الأولى هي أن التقنية لا تعني فعل الصانع وفنه فقط، بل تعني كذلك أيضا الفن والفنون الجميلة. التقنية جزء من فعل للإنتاج، إنها صناعة أو إنتاج شعري بالمعنى الأسمى للكلمة "Poietique ".
أما النقطة الأخرى بخصوص كلمة تقنية، فهي أيضا أكثر أهمية. إلى حدود فترة أفلاطون، كانت كلمة "تقنية" مرتبطة دائما بالكلمة (أبيستينون) وهي تعني العلم أو المعرفة. الإثنان اسمان للمعرفة بالمعنى الأوسع. فهما يعنيان فعل القدرة على الاهتداء في شيء ما، والتعرف إليه. تقدم المعرفة انفتاحات، وبما هي كذلك فهي انكشاف. في بحث خاص (الأخلاق إلى نيقوماخوس، الجزء الخامس، الفصل الثالث والرابع) يميز أرسطو بين المعرفة والتقنية، وذلك من حيث ما يكشفانه والطريقة التي يكشفانه بها. إن التقنية شكل من أشكال الآليتيا. إنها تكشف هذا الذي لا ينتج ذاته وليس بعد أمامنا، وهو ما يمكن أن يأخذ مرة هذا المظهر، وهذه الهيئة، ويأخذ مرة أخرى شكلا آخر. إن من يشيد منزلا أو باخرة، أو يصنع كأسا قربانيا، يكشف الشيء الذي يعين إنتاجه حسب منظورات الأنماط الأربعة "للإتيان بـ". هذا الانكشاف يجمع قبلنا المظهر الخارجي ومادة الباخرة أو المنزل في منظور الشيء الجاهز والمرئي، ويحدد انطلاقا من ذلك كيفيات الصنع. وهكذا فالنقطة الحاسمة في التقنية لا تكمن نهائيا في الفعل والاستعمال، ولا في استخدام الوسائل أيضا لا بل تكمن في الانكشاف الذي نتحدث عنه. وهكذا فالتقنية هي إنتاج بمعنى انكشاف لا إنتاج بمعنى الصنع.
يكفي أن نظهر ما تعنيه كلمة التقنية، والكيفية التي يتصور بها اليونان هذا الذي يسمونه بالتقنية، لكي نسير إلى نفس نقطة الالتقاء التي انكشفت لنا، حين كنا نبحث عما تعنيه في الحقيقة الأداتية باعتبارها كذلك.
إن التقنية شكل من أشكال الانكشاف، فهي تنشر كينونتها في المنطقة التي وجد فيها الانكشاف، واللاتحجب، والآليتيا أي حيث وجدت الحقيقة.
بعد تحديدنا للمنطقة حيث يجب البحث عن ماهية التقنية يمكن أن نعترض ونقول بأن هذه المنطقة جائزة بالنسبة للفكر اليوناني، وأحسن من ذلك نقول بأنها تناسب التقنية الحرفية، لكنها غير مطابقة بتاتا للتقنية الحديثة القائمة على المحركات. إن التقنية الحديثة هي وحدها العنصر المغلق الذي يدفعنا لنتساءل عما هي "الـ" تقنية. يقال إن التقنية الحديثة مختلفة عن سابقاتها، إلى درجة أنها لا يمكن أن نقارن معها، لأنها مؤسسة على العلم الحديث الدقيق للطبيعة. قبل قليل، كما قد رأينا بوضوح أن العكس أيضا صحيح: الفيزياء الحديثة، بما هي تجريبية فهي تخضع لعتاد تقني، وهي مشروطة بتقدم صناعة الآلات. هذه العلاقة المتبادلة بين التقنية والفيزياء تبدو صائبة. لكن الملاحظة التي قيلت عنها تبقى ملاحظة "تاريخية" للأحداث، حيث أنها لا تقول لنا شيئا عن أساس هذه العلاقة المتبادلة. ومع ذلك يبقى السؤال الحاسم هو ما هي إذن ماهية التقنية الحديثة، لكي تستطيع هذه الأخيرة أن تتجرأ على استخدام العلوم الطبيعية الدقيقة؟
ما هي التقنية الحديثة؟ هي أيضا انكشاف. حين نمعن النظر في هذه السمة الأساسية، حينئذ يتجلى لنا ما هو جديد فيها.
إن الانكشاف الذي يسود التقنية الحديثة لا يتجلى في إنتاج، بمعنى إنتاج شعري. الانكشاف الذي يسود التقنية الحديثة هو عبارة عن تحريض عن طريقه تكون الطبيعة منذورة إلى تقديم طاقة يمكن، من حيث هي كذلك، أن تستخرج وتراكم. لكن ألا يمكن أن نقول نفس الشيء عن طاحونة الهواء القديمة؟
لا: إن أجنحتها تدور بفعل الريح، وهي منذورة مباشرة إلى هبوبه. لكن إذا كانت الطاحونة الهوائية تضع تحت تصرفنا طاقة متولدة عن حركة الهواء، فليس ذلك لمراكمتها.
وعلى العكس من ذلك فإن منطقة من المناطق تكون مدعوة إلى ومحرضة على استخراج الفحم الحجري والمعادن. تظهر القشرة الأرضية اليوم كحوض للفحم الحجري، والأرض كمستودع للمعادن. كم يبدو مختلفا تماما الحقل الذي كان يحرثه الفلاح فيما مضى، في حين كان فعل "حرث" ما يزال يعني: أحاط الحقل بسياج واعتنى به. عمل الفلاح هذا لا يحرض الأرض المزروعة. عندما يزرع الفلاح الحبة، فهو يعهد بالبذرة إلى قوى النمو، ويسهر عليها حتى تزدهر. لكن خلال ذلك، أُدخلت فلاحة الحقول هي أيضا، في حركة للفلاحة من نوع آخر، حركة "تطالب" الطبيعة، بمعنى تحرضها. لهذا أصبحت الفلاحة اليوم عبارة عن صناعة ممكنة للتغذية. يُطلب الهواء لتقديم الآزوط والأرض من أجل المعادن، وتلتمس المعدن مثلا للحصول على الأورانيوم، وهذا الأخير من أجل الطاقة الذرية، التي يمكن تسخيرها إما من أجل غايات التدمير أو للاستعمال السلمي.
إن فعل الالتماس الذي يستفز الطاقات الطبيعية ويحرضها يمكن اعتباره بمثابة "تقديم" بمعنى مزدوج. إنه يقدم باعتباره يفتح ويوضح. مع ذلك فهذا التقديم هو تقديم يشير مسبقا إلى كونه يقدم شيئا آخر، أي يدفعه إلى الأمام من أجل استعماله النهائي وبأقل كلفة ممكنة. إن الفحم المستخرج من الحوض لا "يوضع هناك" ليبقى ببساطة هناك، أو ليكون في أي مكان بل أنه يخزن، وهذا يعني أنه يوضع في مكان تكون الحرارة الشمسية المختزنة فيه "مسخرة" له. وهاته الأخيرة مدعوة إلى تسليم حرارة مرتفعة، تكون بدورها مسخرة لتسليم البخار الذي يولد الضغط الناتج عنه حركة آلية تشغل مصنعا.
إن المحطة الكهربائية التي أقيمت في مكان ما بنهر الراين ترغمه على تسليم ضغطه المائي الذي يرغم بدوره الآلات على الدوران. تعمل هذه الحركة إذن على تدوير الآلة التي تنتج التيار الكهربائي الذي تبقى المحطة الجهوية وشبكتها مسخرتين لغاية توصيله ونقله. في هذا النطاق تتسلسل النتائج الواحدة بعد الأخرى، ابتداء من عملية وضع الطاقة الكهربائية، لتظهر نهر "الراين" كشيء "مُسَخَّر". لم تُشيِّد المحطة على مجرى النهر مثل القنطرة الخشبية القديمة التي تربط منذ قرون هذه الضفة بالأخرى، بل إن النهر هو الذي حُبِس في المحطة. يكتسب النهر اليوم صفته كنهر، أي كممون بالضغط المائي من ماهية المحطة. من أجل أن نرى ونقيس -ولو من بعيد- العنصر المهول الذي يسود هنا، لنتوقف لحظة عند هذا التعارض الذي يظهر بين هذين العنوانين: "الراين" أي النهر المحبوس في معمل للطاقة، و"الراين" كعنوان لذلك العمل الفني الذي هو نشيد هولدرلين. لكن الراين يظل كما يقولون - هو نهر المنظر. ليكن. لكن كيف بإمكانه أن يظل كذلك؟ إنه ليس سوى شيء نقدم له طلبا. أو يكون موضوع زيارة منظمة من طرف وكالة للأسفار وقد أنشأت هنالك صناعة خاصة بالعطل.
إن الانكشاف الذي يحكم التقنية الحديثة يتخذ سمة مناداة أي استفزاز وتحريض. لقد حدثت هذه المناداة عندما تحررت الطاقة المختفية في الطبيعة، وما تم الحصول عليه بهذا الشكل ثم تحويله، وما تم تحويله تمت مراكمته واختزانه، وما تمت مراكمته تم توزيعه، وما تم توزيعه تم خفضه واستهلاكه من جديد. إن الأفعال: حصّل، وحول، وراكم، ووزع، وخَفَّض هي أنماط للانكشاف. لكن هذا الانكشاف لا يحدث بسهولة ولا يضيع في اللامحدود، بل إنه يكشف لذاته طرقه الخاصة، الملتوية، بكيفيات متعددة، وهو يكشفها من حيث أنه يوجهها ويتحكم فيها. وهذا التوجه ذاته مضمون (ومؤمن ومؤكد). فالتوجه والضمان (للتوجه) هي السمات الرئيسية للانكشاف الذي يقوم بالتحريض.
أما الآن أي نوع من الانكشاف يلائم ما سيتحقق بالمناداة المحرضة؟
إن ما يتحقق بهذا الشكل يطلب منه أن يكون مسخرا للتو في المكان المطلوب، وأن يكون موجودا فيه بشكل يجعله طوع تسخير لاحق.
إن الذي يكون هكذا مسخرا، له وضعه وثباته. هذا الوضع الثابت ندعوه الأساس أو المخزون (Bestand-fonds ). تعني كلمة الأساس ها أكثر من المخزون الاحتياطي (Stock ) والأشياء الأكثر ضرورة وأساسية. إن كلمة أساس هنا تتبوأ شرف العنوان. وهو لا يميز شيئا أقل من الكيفية التي يحضر بها كل ما تم الحصول عليه بواسطة الانكشاف الذي يحرض ويثير. إن ما هو هناك بمعنى أساس أو مخزون لم يعد مواجها لنا كموضوع.
لكن ما القول في طائرة تجارية واقفة على أرضية المطار وقت الإقلاع، إنها مع ذلك موضوع بكل تأكيد، نستطيع أن نتمثل الطائرة كما هي، لكن نلاحظ أنها تخفي ما هي عليه والكيفية التي تكون عليها. في المدرج حيث هي واقفة، لا تنكشف كمخزون إلا بقدر ما تكون مسخرة لتأمين إمكانية نقل. لذا ينبغي أن تكون قابلة للتسخير، أي مستعدة للتحليق، وعليها أن تكون كذلك في كل تركيباتها وفي كل أجزائها. (لنتطرق هنا للتعريف الهيجلي الذي يعتبر الآلة أداة مستقلة). سيكون الحكم صائبا من وجهة نظر الأداة الحرفية اليدوية التقليدية. لكن ما نلاحظه هو أن هذا الحكم لم يفكر في الآلة انطلاقا من ماهية التقنية التي ترتكز عليها هذه الآلة. من وجهة نظر المخزون تبقى الآلة تابعة حتما، لأنها تستمد كينونتها من تسخيرها لشيء آخر قابل للتسخير بدوره.
إذا كنا، في هذه اللحظة التي نحاول فيها أن نبين التقنية كانكشاف يحرض، نلاحظ أن التعابير: "نادى" و"سخر" و"مخزون"، تفرض نفسها علينا بطريقة جافة ووحيدة الشكل أي مزعجة، فإن لهذا الفعل ما يبرره في الذات التي يتعلق بها الأمر.
من يقوم بهذه المناداة المحرضة، التي عن طريقها ينكشف ما نسميه الواقع على شكل أساس ومخزون؟ إنه الإنسان بالطبع. لكن في أي مجال يستطيع الإنسان أن يقوم بمثل هذا الكشف؟ يمكن للإنسان بدون شك، وبهذه الكيفية أو تلك، أن يتمثل أو يضع هذا الشيء أو ذاك، أو يتعاطى معه. لكنه لا يمكنه قط أن يتحكم في أشكال الظهور والاختفاء التي يظهر فيها الواقع أو ينسحب. إذا كان "الواقع، منذ أفلاطون، يتجلى من خلال نور الأفكار فإن السبب لا يعود إلى أفلاطون، بقدر ما يكون المفكر قد استجاب فقط لما انكشف له، وفقط بقدر ما يجد الإنسان نفسه مدفوعا إلى تحرير طاقات الطبيعة يحدث هذا الانكشاف (أو الانكشاف) الذي يقوم بعملية التسخير".
إن الكيفية التي نتحدث بها عادة عن الموارد البشرية، أو عن عدد مرضى عيادة طبية، يوحي لنا بهذا التصور. إن حارس الغابة الذي يقيس الخشب المقطوع، والذي يتبع -ظاهريا- نفس الطرق ونفس الأساليب التي قام بها جده، هو اليوم، علم بذلك أم لا، مسخر من طرف قطاع صناعة الخشب. وهو مسخر لأنه يعمل على جعل السيليلوز قابلا للتسخير، وهذا الأخير تستدعيه طلبات الورق من طرف الجرائد والمجلات المصورة. هذه المجلات تنادي وتدعو بدورها الرأي العام ليتشرب الأشياء المطبوعة حتى يتسخر هو ذاته لصوغ وتكوين الرأين استجابة لطلبية تم التوصل بها في هذا الشأن. ولكن بما أن الإنسان مدعو، وبطريقة أكثر أصالة من الطاقات الطبيعية، مدعو "للتسخير" فإنه لا يصبح أبدا مخزونا خالصا. إن الإنسان بتعاطيه للتقنية، يشارك في التسخير وكأنه شكل من أشكال الكشف. لكن عدم الاختفاء ذاته، الذي يحدث داخله فعل التسخير، ليس من فعل الإنسان ومن اختصاصه، مثله في ذلك مثل الميدان الذي يخترقه الإنسان أو أقل، وذلك كلما تعلق -من حيث هو ذاته- بموضوع.
أين وكيف حدث الانكشاف، إن لم يكن من فعل الإنسان؟
علينا ألا نبحث عن الجواب بعيدا. من الضروري فقط أن نتلقى وبدون سابق إعلام ذلك الذي طالب الإنسان دوما في كلمة موجهة إليه، وبكيفية مؤكدة، بأنه لا يستطيع أن يكون إنسانا إن لم يكن هو الكائن الذي يوجه إليه مثل هذا الكلام. هكذا فأينما فتح الإنسان عينه وأذنه وقلبه وأينما تعاطى للفكر وارتبط بغاية، أينما شكل وألف، طلب وتشكر، فإنه يجد نفسه منساقا قبليا داخل اللامحجوب. إن لا احتجاب هذا الأخير قد حدث بصورة قبلية، كلما دعت الإنسان وأدخلته ضمن أنماط الانكشاف التي هي مستندة له ومقاسة على مقاسه. حين يكشف الإنسان داخل الحقيقة، وبطريقته الخاصة ما هو حاضر، فإنه لا يقوم سوى بالاستجابة لنداء الحقيقة، حتى ولو تناقض مع هذا النداء. هكذا عندما يقتفي الإنسان الباحث أثر الطبيعة ويعتبرها كمجال لتمثلاته، فإنه يكون حينئذ مطالبا مسبقا من طرف نمط من الانكشاف الذي يحث الإنسان على التعامل مع الطبيعة كموضوع للبحث إلى درجة يختفي فيها الموضوع هو أيضا في "لا موضوع" الأساس المخزون.
هل يمكن اعتبار التقنية الحديثة، بما هي انكشاف مسخر، فعلا إنسانيا خالصا؟ لذلك علينا أن نقبل هذا التحريض كما يتجلى، هذا التحريض الذي يجعل الإنسان مستعدا لتسخير الواقع كمخزون، هذا التحريض يجمّع الإنسان في فعل التسخير. مثل هذا "الجامع" هو الذي يجعل الإنسان يقوم بمهمة تسخير الواقع أساس وكمخزون.
إن الذي ينشر، بشكل أصيل الجبال في خطوط ويخترقها على شكل تجميع للثنايا، هو "الجامع" الذي نسميه الجبال.
إ ذاك الذي يجمع أنماط مزاجنا بشكل أصيل هو ما نسميه القلب. أما الآن فهذا النداء المحرض الذي يجمّع الإنسان حول مهمة لتسخير التعامل مع ما ينكشف على أنه مخزون نسميه الاستفسار(1) (Arraisonnement ). إننا نخاطر باستعمال كلمة تفتيش بمعنى لم يكن متداولا إلى الآن. حسب الدلالة العادية تعني كلمة Ges-tell موضوع استعمال مفيد كرف لحمل الكتب مثلا. الهيكل العظمي يسمى هو أيضا باسم Ges-stell . يبدو استعمال كلمة Ges-tell هنا المطلوب منا أمرا مهولا مثل هذا الهيكل العظمي وذلك حتى لا نقول شيئا عن التعسف والاعتباطية التي تعامل بها ألفاظ لغة مكتملة معاملة سيئة. هل بإمكاننا أن ندفع هذه الاعتباطية إلى أبعد حد؟ بكل تأكيد لا. غير أن هذه الاعتباطية هي استعمال عرفي قديم للفكر. والحق أن المفكرين يتلاءمون معه، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالتفكير فيما هو عظيم. أما نحن الذين وصلنا متأخرين فإننا لا نستطيع أبدا أن نقيس أهمية الفعل الذي تجرأ به أفلاطون على استعمال كلمة "الصور" (أيدوس) لهذا الذي ينشر كينونته في الكل وفي كل شيء على حدة. إذ إنها باللغة اليومية تعني المظهر الذي يقدمه شيء مرئي لعيننا الجسمية. مع ذلك يطلب أفلاطون شيئا جديدا تماما من كلمة صورة لتعني بالتدقيق، ما ليس كائنا وما لا يمكن أن يدرك أبدا لعيون الجسم. لكن ولو بهذه الطريقة في التعبير، فإننا لم ننته بعد مع ما هو مدهش. لأن الصورة (ايديا) (أو الفكر) لا تعني فقط الهيأة اللامحسوسة للشيء الذي يكون مرئيا بالحواس، أي الشيء الذي يشكل ماهية ما يمكن أن نسمعه، أو نلمسه أو نشمه، أو أي شيء يسهل بلوغه: هذا الشيء يسمى مظهرا أو ايديا وهو موجود كذلك. إذا قارنا بين ما يطلبه أفلاطون هنا وفي حالات أخرى، من اللغة والفكر، وبين الاستعمال الذي نقوم به نحن الآن بكلمة Ges-tell لتشير إلى ماهية التقنية الحديثة سيبدو استعمالا غير مؤذ تقريبا، لكنه يبقى مطلبا ضروريا يقود إلى سوء التفاهم.
هكذا نسمي بالاستفسار مجموع هذه المساءلة والاستنطاق الذي يطالب الإنسان، أي يحرضه على كشف الواقع كمخزون قابل للتسخير والاستعمال. هكذا نسمي شكل الانكشاف الذي يسود ماهية التقنية، والذي ليس هو ذاته شيئا تقنيا. في مقابل ذلك فإن ما يشكل جزءا مما هو تقني هو ما نعرفه عن: السيقان، مكباس لمحرك، الأخشاب المعدة للبناء، أي الأجزاء المكونة لما ندعوه بمركب صناعي مثلا. مع ذلك فالمركب والأجزاء المذكورة المكونة له تدخل في نطاق العمل التقني الذي يستجيب دائما للتحريض الذي يمارسه الاستفسار، لكنه ليس أبدا هو هذا الأخير بل إنه لا ينتجه.
في التسمية: الاستفسار نجد أن الفعل Stellen (وضع-أظهر) لا يعني التحريض فحسب، بل أنه عليه أن يحتفظ في نفس الوقت، بصدى فعل آخر اشتق منه وهو الفعل "Her-stellen " (الذي يعني "وضع الشيء منتصبا أمام"، "صنع") المرتبط بالفعل: "Dor-stellen " (الذي يعني: "وضع أمام العين" "عرض") والذي يجعل الشيء الحاضر في عدم التحجب. إن هذا الإنتاج الذي يظهر مثلا على انتصاب تمثال في قلب المعبد، والتسخير أو التحريض الذي نتحدث عنه الآن، هما بلا شك، مختلفان اختلافا جذريا، ومع ذلك يظلان واضحين في كينونتهما، لأنهما كليهما نمطان للانكشاف أي للحقيقة (بمعنى الاليتيا).
من عملية الاستفسار يحدث هذا اللاتحجب الذي يكشف عمل التقنية الحديثة وفقا له الواقع كمخزون ومستودع.
وبالإضافة إلى ذلك أليست التقنية الحديثة لا فعلا إنسانيا ولا مجرد وسيلة ملازمة لمثل هذا الفعل؟ إن التصور الأداتي المحض والانتروبولوجي المحض للتقنية يصبح ساقطا من حيث المبدأ ولن نستطيع إتمامه بتفسير ميتافيزيقي أو ديني نلحقه به بسهولة.
ومع ذلك فإنه يظل من الصائب أن إنسان عصر التقنية مدعو إلى الكشف بطريقة مثيرة. يتعلق الكشف أولا بالطبيعة من حيث أنها أهم احتياطي لمستودع الطاقة. وبصورة مقابلة فإن السلوك "المسخر" للإنسان يتجلى أولا في ظهور علم الطبيعة الحديث والدقيق. ونمط التمثل الخاص بهذا العلم يتابع بدقة الطبيعة منظورا إليها كمركب قوي قابل للحساب. وليست الفيزياء الحديثة فيزياء تجريبية لأنها تطبق على الطبيعة أجهزة لمساءلتها، بل على العكس من ذلك: فكون الفيزياء -كنظرية خالصة- تجبر الطبيعة على أن تظهر نفسها كمركب قوي قابل للحساب والتنبؤ، هو ما يجعل التجريب مسخرا لمساءلتها واستنطاقها، حتى نعرف متى وكيف تستجيب، وبأية كيفية قد تخضع الطبيعة وتستجيب تحت طائلة الادغام لهذا النداء.
لكن العلم الرياضي للطبيعة قد ولد قبل التقنية الحديثة بقرنين من الزمن. فكيف يمكن أن يكون قد وضع مسبقا في خدمة التقنية؟ إن الوقائع تثبت العكس. ألم تخط التقنية الحديثة خطواتها الأولى فقط عندما استطاعت الارتكاز على علم الطبيعة الدقيق؟ من وجهة نظر حسابات علم "التاريخ" يزل الاعتراض صحيحا. لكن إذا فكرنا فيه بمعنى التاريخ فسيكون غير حقيقي.
إن نظرية الطبيعة، التي أعدتها الفيزياء الحديثة، قد هيأت الطريق لا للتقنية بالدرجة الأولى، بل لماهية التقنية الحديثة. لأن التجميع الذي يحرض ويقود إلى الانكشاف المسخر وهو الذي يسود الفيزياء، لكنه لم يصل فيها بعد إلى إظهار ذاته. إن الفيزياء الحديثة هي رائدة الاستفسار، وهي رائدة ما زالت مجهولة من حيث أصلها.
ما زالت ماهية التقنية مختفية، وستبقى كذلك مدة طويلة، حتى ونحن نخترع المحركات، وحيث تجد كل من التقنية الإلكترونية وتقنية الذرة طريقهما. إن كل ما هو جوهري، لا فقط ماهية التقنية وحدها، يبقى منزويا ومختفيا لأطول مدة ممكنة. وهو يبقى كذلك تحت قوتها التوجيهية، إنه يبقى سابقا لكل شيء: أي لهذا الذي ينحدر من الأزمنة الأولى. كان لدى المفكرين اليونان بعض المعرفة بحالة الأشياء هذه عندما قالوا: "مبكرا ينفتح شيء ما ويمارس قوته، وبعد ذلك يظهر ذاته لنا نحن معشر البشر"، إن الفجر الأصلي لا يظهر للإنسان إلا في آخر المطاف. وهكذا فإن السعي في مجال الفكر للنفاد بطريقة أولية، فيما فكر فيه منذ البداية، ليس مفعول إرادة عبثية لإحياء الماضي، بل هو نتيجة تهيؤ هادئ نكون فيه مستعدين للاندهاش تجاه ما انحدر إلينا من الفجر الأول.
لقد ابتدأ العلم الحديث للطبيعة، حسب تسلسل حقب "التاريخ"، في القرن السابع عشر. وعلى عكس ذلك فإن التقنية ذات المحركات لم تتطور، قبل النصف الثاني من القرن الثامن عشر. بيد أن ما هو متأخر بالنسبة للملاحظة "التاريخية"، أي التقنية الحديثة، هو السابق في التاريخ، نقصد بالتاريخ هنا الماهية الكامنة والمتحكمة فيه.
إذا كان ينبغي على الفيزياء الحديثة أن تتلاءم مع كون مجال تمثلها يفلت من كل حدس، فإن هذا التخلي لم يُمْلَ عليها من طرف لجنة من العلماء. بل إن هذا التخلي ولدته سلطة الاستفسار الذي يطالب الطبيعة بأن تكون مسخرة "كمستودع ومخزون". لذا فكيفما كانت الحركة التي بمقتضاها تبتعد الفيزياء عن نمط تمثلها الخاص المتجه نحو الموضوعات، وهو النمط الذي ما يزال سائدا الآن، فإن هناك شيئا لا يمكن أبدا أن تتخلى عنه: هو أن الطبيعة تستجيب للنداء بأية طريقة كانت، لكنها طريقة محكومة بواسطة الحساب ومجبرة على أن تظل مسخرة كمنظومة من المعلومات. تتحدد هذه المنظومة ابتداء من تصور عن العلية تم تعديله. وهذه العلية لا تقدم الآن لا سمة "الاستحضار المنتج" ولا نمط العلة الفاعلة، ولا فضلا عن ذلك نمط العلة الصورية، تبدو العلية وكأنها تنكمش لتصبح إشعارا محرضا للمخزون الذي ينبغي وضعه دائما في مأمن أو مرة تلو أخرى. هذا الاختزال للعلية يتلاءم مع عملية التلطيف المتزايد للادعاءات، كما سبق لهايزنبرغ أن عرض هذه المسألة في محاضرته: "صورة الطبيعة في الفيزياء المعاصرة".
بما أن ماهية التقنية الحديثة تكمن في الاستفسار، فإن على التقنية أن تستعمل علم الطبيعة الدقيق. من هنا ينشأ المظهر الخادع القائل بأن التقنية الحديثة هي العلم الطبيعي مطبقا. وسيستمر هذا المظهر طالما لم نسائل، بما فيه الكفاية وبالتالي لم نكشف، لا عن الأصل الأساسي للعلم الحديث، ولا أقل ممن ذلك عن ماهية التقنية الحديثة.
نتساءل عما هي التقنية من أجل أن نسلط الضوء على صلتنا بماهيتها. ماهية التقنية تظهر فيما سميناه بالاستفسار غير أن إبراز ذلك لا يستجيب بتاتا للسؤال المتعلق بالتقنية، هذا إذا كان الفعل "استجاب" يعني أن يتوافق وماهية الشيء المطروح في السؤال.
أين وصلنا الآن إذا ما تقدمنا خطوة أخرى في تأمل ماهية الاستفسار ذاته بما هو كذلك؟ إنه ليس بشيء تقني، إنه لا يماثل الآلة في أي شيء. الاستفسار هو النمط الذي يكشف الواقع نفسه، تبعا له، كمخزون. نتساءل أيضا: هل سبق - لهذا الانكشاف أن حدث بعيدا عن أي فعل إنساني؟ الجواب بالنفي. ومع ذلك فهو لم يحدث في الإنسان وحده ولا بواسطته بصورة حاسمة.
الاستفسار هو ما يجمع هذه المساءلة، ما يجعل الإنسان على استعداد ليكشف الواقع كمخزون قابل "للتسخير". إن الإنسان من حيث إنه محرض فإنه يقع هو نفسه في الميدان الأساسي للاستفسار. وليس بمقدور الإنسان أبدا أن يتحمل، مباشرة، علاقة معه، وذلك لأن السؤال عن معرفة كيف نستطيع الدخول في علاقة مع ماهية التقنية، سؤال يأتي دوما متأخرا. لكن هناك سؤال لن يأتي أبدا متأخرا وهو: هل نعي صراحة أنفسنا على أننا هم أولئك الذين يكونون سواء بالفعل، أو بالإمكان، وأينما كنا، بطريقة مفتوحة أو مستورة محرضين من طرف الاستفسار. هذا السؤال عن معرفة متى وكيف ندخل نحن أنفسنا في مجال كينونة الاستفسار ذاته سؤال لا يأتي أبدا متأخرا.
تضع ماهية التقنية الحديثة الإنسان في طريق، هذا الانكشاف الذي بواسطته، وبطريقة غير مدركة بوضوح، يصبح الواقع مستودعا ومخزونا. وضع في الطريق، يعني: أرسل. هذا الإرسال الذي يجمع، والذي يستطيع وحده أن يضع الإنسان على طريق الكشف والانكشاف، نسميه المصير. انطلاقا من هذا المصير تتحدد ماهية كل تاريخ. ليس التاريخ هو موضوع علم "التاريخ" فحسب، كما أنه ليس فقط اكتمال الفعالية الإنسانية. وهذه الفعالية لا تصبح تاريخية إلا عندما تكون في علاقة مع تهيئة المصير وإعداده. (انظر: "في ماهية الحقيقة" 1930 الطبعة الأولى 1943 الصفحة 16 وما يليها). وفقط عندما "يرسلـ"ـنا المصير ويضعنا في نمط التمثل الذي يحول كل شيء إلى موضوع، فإنه يجعل ما ينتمي إلى التاريخ أمرا قابلا للتناول كموضوع "لعلم التاريخ"، أي لعلم من العلوم، ويجعل من الممكن -انطلاقا من ذلك- مماثلة ما هو تاريخي بما ينتمي لعلم التاريخ.
إن الاستفسار بما هو تحريض على التسخير يحيل إلى نمط الكشف والانكشاف. إن الاستفسار، ككل نمط من أنماط الانكشاف، مبعوث من طرف المصير. وبهذا المعنى أيضا يمكن أن نعتبر الإنتاج كمصير.
إن عدم إخفاء ما هو كائن يتّبع دوما طريقا للانكشاف. إن الإنسان، في كل كينونته، دوما محكوم من طرف مصير الانكشاف. لكن المسألة ليست أبدا مسألة قدر قسري. إذ إن الإنسان لا يصبح حرا إلا بقدر ما يكون مندرجا في ميدان المصير، وبذلك يصبح إنسانا ينصت لا قِنّاً يؤمر.
إن ماهية الحرية ليست خاضعة أصليا للإرادة، وأقل من ذلك فهي ليست فقط خاضعة لعلية الإرادة الإنسانية.
تسود الحرية إذن كل ما هو حر، أي كل ما هو مستضيء أي منكشف. إن فعل الكشف والانكشاف، أي الحقيقة، هو الفعل الذي تتحد به الحرية بأكثر الصلات قربا وحميمية. وكل انكشاف ينتمي إلى الاستظلال والاحتجاب. لكن الذي يحرر، أي السر، هو دوما مختف وفي طور الاختفاء. وكل انكشاف ينحدر مما هو حر ويسير نحو ما هو حر ويقود نحو ما هو حر. إن حرية ما هو حر لا تقوم لا في العشوائية ولا في الخضوع لمجرد قوانين. إن الحرية هي ما يخفي وهو ينير، والذي يسبح في وضوحه هذا الحجاب الذي يخفي الكينونة العميقة لكل حقيقة، ويظهر الحجاب على أنه هو بمثابة ما يخفي. إن الحرية هي ميدان المصير الذي يضع في كل مرة انكشافا في الطريق.
تكمن ماهية التقنية الحديثة في الاستفسار، وهذا الأخير جزء من مصير الانكشاف: هذه القضايا تقول شيئا آخر غير التأكيدات التي نسمعها كثيرا، والتي تعتبر التقنية بمثابة قدر لعصرنا، حيث تعني كلمة قدر هنا كل ما هو محتم في سيرورة لا يمكن تعديلها.
وعكس ذلك فعندما ننظر إلى ماهية التقنية يظهر لنا الاستفسار كمصير للانكشاف. وهكذا فنحن نقيم من قبل في العنصر الحر للمصير، هذا المصير الذي لا يحبسنا البتة في قسر كئيب ولا يرغمنا على الخضوع للتقني بخنوع أو (هو نفس الشرح) على أن نتمرد عليها بدون جدوى وأن نحكم عليها كعمل شيطاني. بل بالعكس، عندما ننفتح على الخصوص على ماهية التقنية نجد أنفسنا وبطريقة غير متوقعة مأخوذين ضمن نداء محرِّر.
تكمن ماهية التقنية في الاستفسار الذي تشكل قوته جزءا من المصير. يضع هذا الاستفسار الإنسان في كل مرة على طريق الانكشاف. وبما أنه وضع على هذا الطريق فالإنسان يتقدم باستمرار نحو هذه الإمكانية: هي أن يعمل على تطوير هذا الذي انكشف له في "التسخير"، وعليه بالتالي أن يأخذ كل احتياطاته بدءا من هذه الوضعية. وهكذا تنغلق أمامه إمكانية أخرى: هي أن يتجه، وبطريقة أصيلة دوما نحو كينونة ما هو غير مختف، ونحو عدم تحجبه، ليدرك ويرى انتماءه للكشف والانكشاف (وهو الانتماء الذي يمسك به بين يديه) كأنه هو ماهيته الخاصة.
إن الإنسان من حيث أنه يقع بين هاتين الإمكانيتين معرض لتهديد يكون المصير منطلقه. إن مصير الانكشاف بما هو كذلك، هو إذن وبالضرورة، وفي كل أنماطه خطر.
مهما تكن الطريقة التي يمارس بها مصير الانكشاف قوته، فإن اللاتحجب (الحقيقة) الذي يظهر فيه في كل مرة ما هو كائن، يكشف عن خطر كون الإنسان يخطئ بخصوص اللامحجب ويؤوله تأويلا سيئا. وهكذا فهناك حيث يتجلى كل ما هو حاضر في ضوء الارتباط: علة - نتيجة، يمكن أن يفقد الإله ذاته (في التمثل الذي نكونه عنه) كل ما له من قدسية وسمو، وكل ما في ابتعاده وتعاليه من سر وغموض، هكذا يأخذ الإله، تحت ضوء العلية، صورة علة فاعلة لنجده قد أصبح داخل اللاهوت هو إله الفلاسفة، أي أولئك الذين يحددون الظاهر والخفي حسب علية "الفعل" دون محاولة لاعتبار الأصل الجوهري لهذه العلية.
يمكن أن نقول نفس الشيء عن اللااختفاء الذي تنكشف الطبيعة تبعا له كمفعول مركب قابل للحساب من القوي يمكن بدون شك أن يسمح بملاحظات دقيقة، لكن وبالضبط بسبب هذه النجاحات، فإنها تبقى هي الخطر، خاصة حيث يتخفى داخل كل هذه الدفة.
إن مصير الانكشاف ليس في حد ذاته خطرا من بين الأخطار، بل هو الخطر عينه.
لكن إذا كان المصير يسودنا على طريقة الاستفسار، فهو إذن الخطر الأقصى. والخطر يظهر نفسه لنا من جهتين مختلفتين. عندما لا يكون اللامختفي حتى مجرد موضوع للإنسان بل يتعلق به فقط كمحزون وأساس، وعندما لا يكون الإنسان داخل ما هو بدون موضوع، سوى المسخر للمخزون الأساس، عندها يتابع الإنسان طريقه على حافة الهاوية، بل نجد أنه سائر إلى الحد الذي لن يعامل هو ذاته إلا كأساس ومخزون. والآن فإن الإنسان، وهو المعرض لهذا التهديد، هو الذي يتغطرس وينصب نفسه سيدا للأرض.
وهكذا ينشأ، وينتشر المظهر القائل بأن كل ما نصادفه لا يستمر إلا من حيث إنه من فعل الإنسان. هذا المظهر يغذي بدوره وهما أخَرَ: يبدو لنا أن الإنسان وفي كل مكان لا يصادف إلا ذاته. لقد كان هيزنبرغ على حق حين قال بأن الواقع لا يمكنه أن يظهر بشكل آخر لإنسان اليوم. غير أن الإنسان اليوم يصادف ذاته في الحقيقة في أي مكان، أي أنه لا يصادف كينونته في أي مكان. يتوافق الإنسان بطريقة مصممة مع التحريض الذي يمارسه الاستفسار، بحيث لا يدرك هذا الأخير كنداء ملح وبحيث لا يرى ذاته على أنه هو ذلك الكائن الذي يوجه إليه هذا النداء.
من ثمة تفلت منه كل الطرق التي تمكنه من أن يفهم كيف يوجد، بحكم كينونته، وجودا تخارجيا في مجال نداء، ولماذا لا يستطيع إذن ألا يصادف أبدا إلا ذاته.
لكن الاستفسار لا يهدد الإنسان وحده فغي علاقته بذاته وبكل ما هو كائن. فمن حيث أنه قدر، فهو يحيل إلى هذا الانكشاف الذي يتخذ شكل "تسخير". هناك حيث يهيمن هذا الانكشاف المسخر، فإنه يلغي كل إمكانية أخرى للانكشاف. يخفي الاستفسار بخاصة هذا الانكشاف الآخر، الذي يُنتج ويُظهر الشيء الحاضر. بمقارنته مع هذا الانكشاف الآخر، نرى أن الانكشاف الذي يطالب ويستفز يسير في الاتجاه المعاكس لما هو كائن. هناك حيث يهيمن الاستفسار، نجد أن إرادة وتأمين المخزون يطبعان كل انكشاف ببصماتهما. إنهما تحولان حتى دون ظهور طابعهما الأساسي، أي هذا الانكشاف من حيث هو كذلك.
لا يقتصر الاستفسار المحرض على إخفاء نمط سابق للانكشاف، أي ينتجه، بل يخفي أيضا الانكشاف من حيث هو كذلك، ومعه هذا الذي فيه يُنتج اللاحتجاب أي الحقيقة.
إن الاستفسار يحجب عنا قوة ولمعان الحقيقة.
إن القدر الذي يوجه نحو التسخير هو الخطر الأقصى ليست التقنية هي ما هو خطير. لا وجود لما هو شيطاني فيها، بل هناك غموض ماهيتها. إن ماهية التقنية، من حيث إنها مصير للانكشاف هي الخطر. إن المعنى المعدل لكلمة استفسار (Gestell ) يصبح مألوفا لدينا إذا فهمنا الاستفسار بمعنى المصير (أو القدر) وبمعنى الخطر.
إن التهديد الذي يثقل كاهل الإنسان، لا يأتي في الدرجة الأولى، من آلات وأجهزة التقنية، التي يمكن بالفعل أن تكون قاتلة. إن التهديد الحقيقي كان قد أصاب من قبل الإنسان في كينونته. إن سيادة الاستفسار يهددنا باحتمال أن تُرفَضَ للإنسان إمكانية العودة إلى انكشاف أصلي، ولسماع نداء حقيقة أكثر أولية.
هناك حيث يهيمن الاستفسار، هل يمكن أن يكون هناك خطر بالمعنى الأعلى للكلمة؟
لكن، هناك حيث يكون الخطر.
ينمو هناك أيضا ما ينقذ.
لننظر بعناية إلى كلام هولدرلين. ماذا يعني الفعل أنقذ؟ تعودنا أن نفهم أن هذا الفعل يعني ببساطة: أمسك في الوقت المناسب الشيء المهدد بالتحطيم لتأمين بقائه اللاحق. لكن الفعل "أنقذ" أكثر من ذلك، فهو يعني أيضا: أن نقود نحو الماهية، من أجل إظهارها للمرة الأولى، وبالطريقة الخاصة بها. إذا كانت ماهية التقنية أي الاستفسار، هي الخطر العظيم، وكان هولدرلين، في نفس الوقت محقا، فإن سيطرة الاستفسار لا يمكن أن تقتصر على تجاهل كل وضوح اشتغال وإشعاع للحقيقة. ينبغي إذن أن تكون ماهية التقنية هب التي تحتضن نمو مل ينقذ. لكن هل بإمكان نظرة حادة تلقى على ما هو الاستفسار باعتباره قدرا للانكشاف، أن تعمل على إظهاره هذا الذي ينقذ في ولاته ذاتها؟
كيف يمكن "لما ينقد" أن ينمو أيضا هناك حيث يكون الخطر؟
هناك حيث ينمو شيء ما، فإنه يتجذر، وانطلاقا من هناك يتطور. كلا السيرورتين تفلت من النظر، إذ تحدث في الصمت وخلاله. لكن إذا قبلنا كلمة الشاعر، فإنه يجب علينا ألا ننتظر، دون توسط ولا تحضير، أن نمسك "بما ينقذ" هناك حيث يكون الخطر. وهذا ما يحتم علينا الآن أن نعتبر، كيف أن هذا الذي ينقذ يتجذر، وفي عمق كبير، في ذلك الذي هو الخطر الأقصى: أي سيطرة الاستفسار، وكيف أنه ينمو انطلاقا من هناك. من أجل مراعاة هذه النقط، من الضروري القيام بالخطوة الأخيرة في طريقنا، وذلك كي نركز على الخطر نظرة أكثر وضوحا. علينا إذن أن نتساءل من جديد عما هي التقنية؟ لأنه، تبعا لما قلناه، في ماهيتها يتجذر وينمو ما ينقذ.
لكن كيف يمكننا، إدراك "ما ينقذ" في ماهية التقنية ما دمنا لم نفحص ضمن أي استعمال لكلمة "ماهية" سيكون الاستفسار هو ماهية التقنية؟
إلى حد الآن أخذنا الكلمة "ماهية" (Wesen-Essence ) في دلالتها الجارية. في اللغة الفلسفية المدرسية تعني كلمة "ماهية" ما يكون عليه الشيء. باللاتينية الكلمة (Quiddité ) تجيب عن السؤال المتعلق بالماهية. إن ما يوافق مثلا كل أنواع الشجر: للفلين، للزان، للسندر، للتنوب، هو نفس "الشجرية". ضمن هذه الأخيرة، كجنس مشترك، "كشمولي" تدخل الأشجار الواقعية والممكنة. والآن: هل ماهية التقنية أي الاستفسار، هي الجنس المشترك لكل ما هو تقني؟ إذا كان الأمر كذلك، عندئذ ستكون التوربينة البخارية، ومحطة الإرسال، والسيكلوترون (Cyclotron ) ستكون بالقدر نفسه استفسارات. لكن كلمة الاستفسار لا تعني هنا لا الوسيلة ولا أي نوع من الأجهزة. هل تعني، على الأقل المفهوم العام القابل للتطبيق على مثل هذا الأساس. إن الآلات والأجهزة هي أيضا أنواع من الاستفسار، كما هو الشأن مثلا للإنسان أمام لوحة القيادة، أو المهندس وهو في مكتب ورشة البناء. كل هذا وكل ما هو على طريقته، يدخل بلا شك في مجال الاستفسار، سواء كجزء لا يتجزأ من المخزن الأساسي أو كشيء مسخر. لكن الاستفسار ليس أبدا ماهية للتقنية كنوع. إن الاستفسار طريقة "مصيرية" قدرية من الانكشاف، أي على شكل تحريض. ويصدق نفس الشيء على الانكشاف المنتج الذي هو أيضا مثل هذه الطريقة القدرية. لكن ألا تكون هذه الأنماط هي تلك الأنواع المنتظمة فيها والتي تندرج تحت مفهوم الانكشاف. إن الانكشاف هو هذا القدر الذي يتوزع، في كل مرة وبطريقة مفاجئة وغير قابلة للتفسير بالنسبة لأي فكر، إلى انكشاف منتج وآخر مستفز ويعطي نفسه للإنسان موزعا. يجد الانكشاف المستفز ضمن الانكشاف المنتج أصله الذي هو مرتبط بالمصير والقدر. لكن في ذات الوقت وبمفعول المصير، يجعل الاستفسار الإنتاج غير قابل للتعرف.
هكذا فالاستفسار بما هو قدر الانكشاف هو بدون شك ماهية التقنية، لكنه ليس أبدا ماهية بمعنى الجنس (Essentia ). إذا انتبهنا لهذه النقطة، سوف نندهش لهذه الواقعة: فالتقنية هي التي تطلب منا أن نفكر ضمن تصور آخر غير الذي نفهمه عادة بمفهوم "الماهية" لكن ما هو هذا المعنى الآخر؟
عندما نقول "أشغال البيت" أو نقول "أمور الدولة" فنحن هنا لا نفكر في عمومية جنس، بل نقصد الطريقة التي يمارس بها البيت أو الدولة قدرته ويدير ويدبر، وينمو، وينقرض. إنها الطريقة التي تستعمل بها كينونتها. في قصيدة يحبها غوته (Goethe ) بشكل خاص، تحت عنوان "شبح شارع كانديري" يستعمل الشاعر ج.ب. هيبل (J.B.Hebel ) الكلمة القديمة (Die Weserei ) وهي تعني: "البلدية": أي المكان الذي تتجمع فيه الحياة الجماعية، ويبقى فيه الوجود القروي في حالة حركة أي يجري فيه، من الفعل (Wesen ) اشتق الاسم (Weserei ). إن كلمة (Wesen ) كفعل مماثلة لكلمة استمر (Wahren ) ودام، لا من حيث المعنى فحسب بل حتى من حيث تشكلها الصوتي. لقد سبق لسقراط وأفلاطون أن فكرا في ماهية الشيء على أنها ما هو موجود بمعنى ما يستمر. وفهما هذا الذي يستمر بمعنى هذا الذي يدوم.
ووجدا هذا الذي يدوم في هذا الذي يظل ويبقى كذلك مهما حدث له. وما يدوم بدوره اكتشفاه في الهيئة، مثلا في فكرة "البيت".
في فكرة "البيت" يظهر كل شيء من جنس "البيت". وعلى العكس من ذلك، فالبيوت الخاصة، الواقعة والممكنة ما هي إلا تعديلات متقلبة وزائلة "للفكرة". فهي إذن تشكل جزءا مما لا يدوم.
لكن لن نستطيع أبدا البرهنة على أن على الذي يستمر، أن يقوم فقط وبصورة خاصة فيما تصوره أفلاطون "كفكرة" وتصوره أرسطو على أنه "ما كان عليه الشيء في السابق" وتصورته الميتافيزيقا بتأويلاتها المتنوعة كماهية.
إن كل ما هو موجود بالمعنى القوي يستمر. لكن أليس الذي يستمر هو الذي يدوم؟ هل تستمر ماهية التقنية بمعنى أنها تدوم مثل دوام فكرة تحلق فوق كل ما هو تقني؟ هكذا ينشأ المظهر الذي يوحي بأن اسم "التقنية" يدل على تجريد أسطوري. كيف تكون التقنية - في كينونتها هذا هو ما لا يمكننا أن نراه، وهو لا يرى إلا انطلاقا من هذا الدوام الذي بداخله يحدث الاستفسار كمصير للانكشاف. عوض الكلمة (Fortwähren ) التي تعني استمر وداوم، يستعمل غوته الكلمة الغامضة Fortgewähren أي "استمر في العطاء". فأذنه تسمع "استمر" و"منح" في انسجام يعسر التعبير عنه لكن إذا فكرنا الآن أحسن مما فعلناه مع هذا الذي يستمر، والذي بإمكانه وحده أن يستمر، نستطيع حينئذ أن نقول: وحده يستمر هذا الذي كان ممنوحا. إن الذي يستمر ومنذ فجر الأزمنة، هو إذن الذي يمنح ويعطي.
من حيث إن الاستفسار يشكل ماهية التقنية، فإنه سيكون هو "هذا الذي يستمر". هل يهيمن "هذا الذي يستمر" يعني "هذا الذي يمنح"؟ الظاهر أن السؤال الوحيد الذي طرحناه هو بمثابة احتقار بديهي. إذ إنه تبعا لما قلناه، فالاستفسار هو مصير أو قدر يجمع، وفي نفس الوقت هو يرسل إلى الانكشاف المحرض الفعل (حرض" هنا يمكن أن يعني كل شيء، لكنه لا يعني "منح". هكذا يظهر لنا، أنه طالما أهملنا ملاحظة أن التحريض الذي عن طريقه يسخر الواقع كمخزون، فسيبقى هذا التحريض إرسالا (للمصير) يقود الإنسان إلى إحدى طرق الانكشاف.
ومن حيث أنها هي هذا المصير فإن ماهية التقنية تقحم الإنسان فيما لا يمكنه من تلقاء ذاته لا أن يكتشفه، ولا، أقل من ذلك، أن يفعله، إذ إن الإنسان الذي لا يكون إنسانا - الأب وعن طريق ذاته: مثل هذا الشيء لا وجود له.
غير أنه إذا كان هذا القدر، أي الاستفسار هو الخطر الأقصى، لا بالنسبة لكينونة الإنسان فحسب، بل بالنسبة لكل انكشاف من حيث هو كذلك، فهل يمكن إذن للفعل الذي يرسل أن يسمى، هو أيضا، فعلا يمنح؟ سيكون الجواب بالإيجاب، إذا كان على "ما ينقذ" أن ينمو ويترعرع ضمن هذا القدر. كل قدر للانكشاف ينتج انطلاقا من الفعل الذي يمنح، وذلك من حيث هو كذلك، إذ أن هذا وحده هو الذي يحمل للإنسان، هذا القسط الذي يأخذه من الانكشاف، وأن حصول الانكشاف يترك الموجود يوجد ويحفظ. ومن حيث أن الإنسان مقود بذلك إلى كينونته ومحفوظ، فإنه -فيما له من خصوصية- منذور إلى حصول الحقيقة. إن ما يسمح وما يرسل بهذه الطريقة أو تلك إلى الانكشاف، هو ما ينقذ. لأن هذا الأخير يمكن الإنسان من تأمل كرامة كينونته والإقامة فيها. تعني الكرامة السهر على عدم تحجب ومعه على تحجب كل كائن فوق هذه الأرض. ففي هذا الاستفسار بالضبط، الذي يهدد بإقحام الإنسان في الإنجاز والتسخير، وكأنه الشكل الوحيد المزعوم للانكشاف، والذي يدفع بذلك الإنسان بقوة نحو خطر أن يهجر كينونته الحرة، فذلك لأنه في أقصى درجات هذا الخطر يظهر للإنسان انتماؤه الحميم وغير القابل للتحطيم "لما يمنح"، هذا إذا افترضنا أننا أخذنا من جهتنا بعين الاعتبار ماهية التقنية.
هكذا - وعكس كل ما هو منتظر فكينونة التقنية تتضمن في ذاتها إمكانية أن "ما ينقذ" يرتسم في الأفق.
النقطة الأساسية التي يتوقف عليها كل شيء هي أن نعتبر هذا الارتسام ممكنا ونتذكره ونرعاه. لكن كيف يمكن أن نفعل ذلك؟ نفعل ذلك قبل كل شيء عندما ندرك ما هو جوهري في التقنية بدل أن نترك أنفسنا ننفتن بالأشياء التقنية. وطالما تمثلنا التقنية كأداة، فإننا تبقى منشغلين بإرادة التحكم فيها. وبذلك نترك جانبا ماهية التقنية.
وإذا تساءلنا الآن كيف أن الأداتية، مفهومة كنوع من العلية، هي -في- كينونتها، فإننا نتطرق إذن إلى هذه الكينونة كقدر انكشاف.
وإذا اعتبرنا في الأخير أن الماهية تحدث في "ما يمنح"، هذا الذي يصون ويحفظ الإنسان في نصيبه من الانكشاف، فإنه يبدو لنا أن ماهية التقنية مبهمة في أعلى معانيها. مثل هذا الإبهام يقودنا نحو سر كل انكشاف، أي نحو سر الحقيقة.
من جهة نجد أن الاستفسار يحرص على الدخول في الحركة المجنونة للإنجاز والتسحير، وهي حركة تغلق كل نظرة إلى إنتاج الانكشاف، وبذلك تضع في خطر، وبشكل جذري، علاقتنا بماهية الحقيقة.
من جهة أخرى، لقد حدث الاستفسار في "ما يمنح" والذي يرغم الإنسان على الاستمرار في دوره ليكون الكائن الذي تنقصه التجربة الآن، لكن ربما سيكون أكثر خبرة في المستقبل - هو المحافظ الساهر على ماهية الحقيقة. وهكذا يظهر فجر ما ينقذ.
إن قوة التسخير التي تصعب مقاومتها، وتوفر ما ينقذ، كلاهما يمران أحدهما أمام الآخر كمسار نجمتين، غير أن تلافي أحدهما للآخر هو الجانب السري لجوارهما.
إذا أمعنا النظر جيدا في الماهية الغامضة للتقنية سندرك الترابط أي الحركة الكوكبية للسر.
إن مسألة التقنية هي مسألة الترابط الذي يحدث فيه الانكشاف والاختفاء، وحتى كينونة الحقيقة ذاتها.
لكن بماذا تفيدنا ملاحظة ترابط الحقيقة؟ إننا نشاهد الخطر، وبهذه المشاهدة ندرك نمو ما ينقذ.
وهكذا فنحن لم ننقذ أنفسنا بعد، لكن هناك شيئا يطلب منا أن نتوقف عنده مندهشين تحت الضوء المتزايد لما ينقذ. كيف يكون هذا ممكنا؟ إنه ممكن هنا والآن، وفي ليونة كل ما هو صغير، وبطريقة تمكننا من حماية ما ينقذ أثناء نموه. وهكذا يقتضي ألا نحيد أبصارنا أبدا عن هذا الخطر الأقصى.
إن كينونة التقنية تتهدد الانكشاف، وتهدد بإمكانية حصر كل انكشاف في التسخير والإنجاز، وتقديم الكل في حقيقة المخزون. الفعل الإنساني ذاته لن يستطيع أبدا أن يعالج مباشرة هذا الخطر. فالإنجازات الإنسانية لن تستطيع لوحدها إبعاد الخطر. ومع ذلك فباستطاعة التأمل الإنساني أن يعتبر أن ما ينقذ يجب أن يكون دوما ذا ماهية عالية وعليه في الوقت نفسه أن يكون ذا صلة بماهية الكينونة المهددة.
لكن هل بإمكاننا انكشاف يوفر الاقتراب من الأصول لأول مرة، أن يظهر ما ينقذ وسط هذا الخطر الذي يختفي في العصر التقني عوض أن يظهر فيه.
فغيما مضى لم تكن التقنية هي الوحيدة التي عملت اسم "تيخني"، فيما مضى كانت "التيخني" تعني أيضا هذا الانكشاف الذي ينتج الحقيقة في بريق ما يظهر.
كانت "التيخني" فيما مضى تعني أيضا إنتاج الحقيقي في الجميل، لأن إنتاج الفنون الجميلة كان يسمى أيضا "تيخني".
في بداية المصير العربي صعدت الفنون عند اليونان إلى أعلى مستوى من الانكشاف الذي منح لها. لهذا كانت هذه الفنون تضيء حضور الآلهة وتنير حوار الأقدار الإلهية والبشرية، في هذه اللحظة لم يكن الفن يحمل اسما آخر غير اسم "تيخني". لقد كان انكشافا فريدا ومتنوعا. كان تقيا، بمعنى أنه كان "حادا"، طيعا للقوة وللمحافظة على الحقيقة. لا تستمد الفنون أصلها من الإحساس الفني، فنتاجات الفن لم تكن قط موضوع متعة جمالية. ولم يكن الفن قط قطاعا من الإنتاج الثقافي.
ماذا كان الفن؟ ربما في لحظات قصيرة لكن في لحظات سامية من التاريخ؟ لماذا حمل الاسم المتواضع: "التيخني" لأنه كان انكشافا منتجا، وبذلك شكل جزءا من الإنتاج. لهذا أعطي له في الأخير اسم "الإنتاج" كاسم خاص به، أعطى لهذا الانكشاف الذي يخترق ويسود كل فن الجميل: الشعر، الشيء الشعري.
الشاعر نفسه الذي سمعنا قوله:
لكن هناك حيث يكون الخطر.
هناك أيضا ينمو ما ينقذ.
يقول لنا: كشاعر، يسكن الإنسان على هذه الأرض.
إن الشعر يضع الحقيقي في أفق إشعاع ما سماه أفلاطون في محاورة "فيدر" بما يلمع ويضع بمنتهى الصفاء، فالشعر يتخلل كل فن وكل فعل تنكشف بواسطته الكينونة الجوهرية في الجميل.
هل ينبغي للفنون الجميلة أن تدعى إلى المشاركة في الانكشاف الشعري؟ هل ينبغي للانكشاف أن يطالب بها بطريقة أولية، لكي تحمي من جهتها بصورة خاصة نمو ما ينقذ، ولتوقظ ولتؤسس من جديد النظرة المتجهة نحو "ما يمنح" لتضع بالتالي الثقة في هذا الأخير؟ هذه الإمكانية العليا لماهيته هل هي ممنوحة للفن وسط الخطر الأقصى؟ لا أحد يستطيع أن يقول ذلك. لكننا يمكن أن نندهش، لكن بماذا؟ بهذه الإمكانية الأخرى وهي: حيثما يستقر جنون التقنية، وإلى هذا اليوم الذي وعبر كل الأشياء التقنية، ستنشر ماهية التقنية كينونتها في عملية حصول الحقيقة.
ماهية التقنية ليست شيئا تقنيا: لذا فالتأمل الجوهري حول التقنية والتحاور الحاسم معها، عليهما أن يحدثا في مجال، يكون من جهة، واضحا لماهية التقنية، وأن لا يكون أقل اختلافا عنها من جهة أخرى.
إن الفن هو مثل هذا المجال، والحق أنه يكون كذلك، عندما لا ينغلق تأمل الفنان، من جهته، عن شبكة الحقيقة، فإنه الذي تطمح إليها أسئلتنا.
ونحن نتساءل بهذا الشكل فإنا نشهد على الوضعية الحرجة حيث أننا لم ندرك بعد، بحكم التقنية، كينونتها الجوهرية. إلا أننا كلما تساءلنا عن ماهية التقنية، كلما أصبحت ماهية الفن غامضة.
كلما اقتربنا من الخطر، كلما توضحت الطرق، هذه الطرق التي تقود نحو "ما ينقذ" ستتضح كلما تساءلنا لأن التساؤل هو تقوى الفكر(1).
ترجمة: د. محمد سبيلا
(2) أو التحقيق بالمعنى القضائي أو التفتيش.
(1) وهذه التقوى هي الكيفية التي يستجيب بها ويتطابق مع ما يجب التفكير فيه.
التقنية والتقانة.. مشكلة المصطلح والدلالة
يوجد التباس في استعمال اشتقاقات عدة للدلالة إما على نفس الفحوى أو للدلالة على معانٍ مختلفة. ما الفرق بين التقنية والتكنولوجيا، أو ما يسمى في الشرق العربي بالتقانة؟
سنتطرّق إلى ثلاث مقاربات للتقنية: التقنية نسيان للوجود، التقنية إيديولوجيا، والتقنية نظام.
1- هيدجر: التقنية نسيان للوجود:
التقنية سؤال فلسفي قبل أن تكون مجرد سؤال علمي، وحَظِيَت من ثم باهتمام الفلاسفة نظراً إلى ما تطرحه من تحدِّيات على الفكر الفلسفي المعاصر. ولا غرابة في أن يحظى سؤال التقنية باهتمام ليس هيدجر وحده بل ثلّة من الفلاسفة المعاصرين من أمثال هابرماس وإيلول وغيرهم.
ويُعتبر هيدجر رائداً في مساءلة التقنية، ولكنه يميِّز في الآن ذاته بين التقنية وماهية التقنية. ما يعني الفيلسوف أساساً هو مساءلة ماهية التقنية، لا التقنية، على اعتبار أن حصر السؤال في التقنية لا يعدو أن يكون منطلقه تصوراً أداتياً، وفي أحسن الأحوال تصوراً أنتربولوجياً وإنسياً للتقنية. بحسب التصور الأوّل التقنية نشاط أو فعالية أو وسيلة من أجل تحقيق غاية معيّنة، وعليه تمثِّل التقنية مجموع الآلات والاجهزة التي يُرمى من ورائها تحقيق غايات محددة وإنجاز أهداف مرسومة سلفاً. وبمجرد معرفة تلك الأهداف والمرامي والغايات ينتهى السؤال. بينما السؤال الفلسفي حول التقنية لا ينتهي بمعرفة الأهداف التي ترمي إليها.
أما السؤال الإنسي أو الأنتربولوجي فليس أحسن حالاً من السؤال الأداتي. وبمجرد ما نتصور أنّ التقنية نشاط إنساني خفيت عنا الخلفية الفلسفية للسؤال، وحُجِبَت علينا الممكنات التي بوسعها أن تفتح لنا آفاق التفلسف. كيف لا والحال أن نسبة التقنية إلى فعالية الإنسان يُنهي حتى إمكان السؤال نفسه، وذلك بواسطة ادِّعاء أنّ الإنسان يحقق نفسه من خلال التقنية وأنّه يتحكَّم فيها ويوجِّهها الوجهة التي يُريدها، ويرسم لها الحدود التي يريدها، بينما الملاحظ هو العكس تماماً: فكيف للإنسان أن يقود التقنية وهو المنقاد لها، وكيف يسوسها وهو المُسَاسُ لها، وأنّى له أن يسود عليها وهو المَسُود.
يعود قصور المقاربتين الأداتية والأنتربولوجيا إلى كونهما لا ينظران إلى التقنية سوى باعتبارها جهازاً أو مجموعاً من الأدوات والآلات المُسَخَّرة لإنجاز غايات ورسم أهداف، وبالتالي النظر إلى التقنية على أنها لا تتجاوز ما خُطِّطَ لها من دون أن تتعدّاه؛ بينما المطلوب هو مساءلة الجذور الميتافزيقية للتقنية، أو بتعبير آخر مساءلة ماهيتها الفلسفية. ويتطلّب الأمر في هذا المستوى العميق من السؤال عدم التحيّز لا للتقنية ولا عليها، وعدم تقريظها وتعداد حسناتها وإيجابياتها من جهة، ولا التبرُّم منها والخوف منها وإحصاء مثالبها وسلبياتها، فالمسألة ليست بهذا التبسيط والاختزال. ولا ينبغي أن نتخيَّل أن أفضل موقف هو الحياد الأكسيولوجي (Neutralite axiologique)، فالحياد خدّاع يُوهم بالموضوعية، بينما الموضوعية هنا ذريعة فقط للتخلُّص من صرامة الفكر. وصرامة الفكر تقتضي ألا نستسلم للمواقف السهلة التي تقتل السؤال الفلسفي في مهَدِه قبل أن يولد.
تقتضي صرامة الفكر وشجاعة الموقف الفلسفي اقتفاء أثر السؤال والسير في دروبه الملتوية وصولاً إلى عمق المسألة وجوهر المشكلة: بصرف النظر عن كون التقنية مجرد جهاز آلي أو إنجاز بشري ومهارة إنسانية، هي في العمق إدراك للوجود ورؤية للعالم. بمعنى آخر لا تنفصل التقنية عن تصور للوجود بمجمله، وللعالم برمّته، فهي انجلاء للوجود في الأزمنة الحديثة لا سابق له عند اليونان ولا في العصور الوسطى. يمكن القول إذن إن ماهية التقنية هي خاصية وجوهر العصور الحديثة والأزمنة المعاصرة.
بأيّ معنى تُعتَبَر في نظر هيدجر انكشافاً للوجود؟
لقد خصّص هيدجر الحديث في تقنية الطاقة سواء الكهربائية أو النووية وفي تقنية صناعة الرأي، وبيّن من خلال الأمثلة التي تناولها كيف أنّ التقنية أساساً تخزين للطاقة وكيفية لصرفها عند الحاجة. قبل أن تكون التقنية نشاطاً إنسانياً أو أداة لتحقيق غايات معيّنة، هي أوّلاً ماهية لها علاقة وطيدة بالوجود، وهي من ثم تعبير عن كيفية ظهور الوجود في الأزمنة الحديثة. التقنية استدعاء للوجود، للحضور، ومن ثمّ فهي استدعاء للطبيعة لكي تُخرِج ما بداخلها من طاقة. تستدعي التقنية الوجود لكي يُسلم ما بجوفه من طاقة وقوة؛ فهي بهذا المعنى تحريض للطبيعة، فما الأرض سوى قشرة لاستخلاص المعادن، وما الهواء إلا لاستخراج الأزوت، وما التربة سوى لاستخراج المعادن، وما المعدن سوى لاستخلاص الأورانيوم، وما الأورانيوم سوى لصنع الطاقة النووية. التقنية في عمقها تحريض للطبيعة لكي تخرج طاقتها وتخزينها وإعادة توزيعها. تضع التقنية الحديثة الوجود رهن الإشارة وتجعل منه مخزوناً للطاقة. تُستَعمَل الطاقة هنا بالمعنى العام سواء كانت طاقة كهربائية أو قوة هوائية أو غيرها، كلّ هذا لا يهم. حتى الإنسان نفسه لا يسلم من هذا، وهو بدوره مدعوّ لكي يُسلِمَ ما بداخله من قوة وطاقة. وهذا يؤكِّد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الإنسان نفسه لا يُعَدُّ استثناء من نمط انكشاف الوجود، وحتى لو أنّه بواسطته تُحَقِّق التقنية مساعيها وغاياتها، يقع بدوره في شراكِها: والمثال الساطع على ذلك هو أنّ الإنسان من منظور التقنية لا يُعتبر سوى مورد من الموارد، ويُتَرجم في علوم التسيير إلى موارد بشرية. يورد هيدجر مثالاً دالّاً فحارس الغابة مرتهن للغابة، وشجر الغابة مرتهن لصناعة الخشب، والخشب مُسَخَّر لصناعة مادة السليلوز، وهذه الأخيرة مُسَخَّرة لصناعة الورق، والورق مسخَّر لصناعة الجرائد والمجلات، وهذه الأخيرة مُسَخَّرة لصناعة الرأي العام. وعليه فماهية التقنية ثاوية خلف مظاهرها، إنها تحريض للطبيعة والإنسان معاً، تجعل كلّ شيء رهن الإشارة وتستدعيه للظهور في الوقت الملائم كلما دعت الضرورة إلى ذلك. إنها استخراج للطاقة وتخزين لها ووضعها رصيداً يتم استدعاؤه كلّما وجب ذلك.
2- هابرماس: التقنية إيديولوجية:
يُخَصِّص هابرماس في مقاربته للعلم والتقنية كإيديولوجيا – وهو نفس عنوان أحد كتبه – الحديث عن نوعين أو شكلين من التقنية: تقنية وعلوم الاتصال، وتقنية وعلوم الحياة (info sphere, biosphere).
يطرح هابرماس مقاربة أخرى للتقنية، يمكن توصيفها بكونها مقاربة إيديولوجية واجتماعية. وبناء عليه فمقاربته تقترح تناول العلم والتقنية ضمن إطار أوسع ويتمثَّل في العقل الاستراتيجي والأداتي الذي يتَّسم من بين ما يتَّسم به استعمال كل الطرائق والمناهج والأدوات التي طوَّرها العقل في سبيل إخضاع الطبيعة والمجتمع والإنسان إلى غايات محددة أساسها الربح والمنفعة بصرف النظر عن القيم كيفما كان مصدرها. يمكن القول إنّ المنطق المستحكم في العقل الإستراتيجي هو تحقيق النفع والمردود والربح وإرساء الضبط والرقابة الاجتماعية وترسيخ الهيمنة السياسية. لقد صار كلّ شيء في المجتمعات الرأسمالية المتطوِّرة مختزَلاً في التقنية بما هي تحكُّم وسيطرة وهيمنة. ابتكرت هذه المجتمعات شتى الطرق التي تُمكِّنها من أن تنظِّم نفسها ذاتياً بكيفية تجعلها تعمل آلياً: يتكوَّن النظام الاجتماعي برمّته من مجموعة من الأنظمة الفرعية التي تعمل آلياً، فالنظام الاقتصادي الرأسمالي يعمل وفقَ وسائل تمكِّنه من إعادة التوازن الذاتي درءاً لكلّ الاختلالات التي يمكن أن تهدِّد توازنه، كما يعمل النظام الإداري والسياسي وفق بيروقراطية تحفظ له احتكار الشرعية، ومن ثمّ الاستحواذ على السلطة. كما تتسم الحياة السياسية في هذه المجتمعات الحديثة باستبداد العقل الاستراتيجي الذي يُعيد إنتاج وتوزيع مواقع القوة والسلطة عبر تنظيمات سياسية مكوّنة من برلمانات ومؤسسات وأجهزة حزبية تضفي صفة الشرعية على الدولة البيروقراطية.
من هنا يتبيّن أن ما يهيمن على جميع الأنظمة السالفة الذكر هو العقل الإستراتيجي والمنطق التقني الذي يُعتَبَر العقل المنظِّم للمجتمعات الحديثة والمعاصرة. فالتقنية أوسع من أن تُحصَر في أدوات وأجهزة، إنها بالأحرى المنطق العام الذي يهيمن على الاقتصاد والإدارة والسياسة والسلطة والذي تُعتَبَرْ سِمَتُهُ المُهَيمِنَة النظر إلى كلّ شيء، لا على أساس أن له قيمته في ذاته بل على أساس أنّه موجَّه نحو غاية: الإنتاج ومزيد من الإنتاج في الاقتصاد، الرقابة والضبط في المجتمع، مأسسة الهيمنة في السياسة.
ليست التقنية في مدلولها العام – سواء تقنية الاتصال أو تقنية الطب والوراثة – سوى الاتجاه العام المُستَبِدّ بالمجتعات المعاصرة الذي يقيس كل شيء بالنسبة إلى ما يُدِرُّهُ من نفع، وبمقدار ما يحققه من غايات إستراتيجية يمكن تلخيصها في إرساء منطق الهيمنة، وهي بذلك لا تنفصل عن العقل الاستراتيجي والأداتي. ليست التقنية محايدة البتة – وهو هنا يلتقي مع هيدجر – ولا يمكن اختزالها في مجرَّد وسائل وأدوات. إذا كانت المجتمعات التقليدية ما قبل الحداثة تتسم بارتكازها على الحكايات والأساطير المؤسِّسة، والمجتمعات الحديثة بارتكازها على الإيديولوجيات الكبرى، فإنّ المجتمعات الرأسمالية المعاصرة تتسم بارتكازها على العلم والتقنية باعتبارهما إيديولوجيا.
نشأت من النسق الرأسمالي العام أنساق أو أنظمة فرعية: النسق الاقتصادي والمالي والصناعي (التقني والعلمي) الذي تتحكم فيه قوانين السوق والمال، والنسق البيروقراطي في الإدارة، والنسق السياسي المبني على احتكار السلطة. يمكن القول بأنّ العلم والتقنية تحوَّلا إلى إيديولوجية المجتمعات الرأسمالية المتطوِّرة، بعد انهيار شرعية الأساطير وشرعية الإيديولوجيات الكبرى، وهما بذلك يؤسِّسان لشرعية جديدة. إنهما من الآن فصاعداً يلعبان دوراً إيديولوجياً. ومجمل المعضلات التي تواجه المجتمعات المعاصرة تُقَدَّم لها حلول علمية – تقنية. وفيما يلي بعض الأمثلة: نشهد اليوم استقالة الدولة من كثير من وظائفها التقليدية كالرعاية الاجتماعية، والتربية على المواطنة، والتعليم العمومي، فانحسرت أدوارها في المهام التقنية والإدارية والبيروقراطية مثل الحفاظ على التوازنات الاقتصادية، وإرساء سياسات وقائية من دون المبالاة بالعدالة الاجتماعية وبالفضاء السياسي. والأدهى من هذا كله اختزال المشكلات العملية والسياسية في إجراءات تقنية مثل العدالة والإنصاف، والديمقراطية والمشاركة السياسية؟ فهذا النوع من الأسئلة لم يعد يحظى من جانب الدولة المعاصرة باهتمام يُذكَر، واستُعِيضَ عنها بطرح حلول تقنية. لا يهم إن تحققت العدالة الاجتماعية أم لم تتحقق، المهم هو الحفاظ على توازنات المجتمع. لا تهم المشاركة السياسية – التي تُعتَبر حجر الزاوية في الديمقراطية – بل كلّ ما يهمُّ هو إرساء آليات تقنية لحفظ توازنات آلية. ولم يعد ملحّاً تشكيل رأي عام سياسي بقدر ما صار المهمّ صناعة الرأي عبر وسائل الإعلام.
ما يكشف عنه هابرماس في كتابه العلم والتقنية كإيديولوجيا هو أنّ العلم والتقنية صارا يمثِّلان إيديولوجيا جديدة، وأصبحا يشكِّلان جهازاً مستقلاً يتطوَّر من تلقاء نفسه وبكيفية آلية، ومنه تستمَّدُّ مشروعية جديدة. لقد ساعد هذا الجهاز التقني العلمي الدولةَ المعاصرة على إفراغ السياسي من السياسة، وعلى تحويل الديمقراطية إلى تقنوقراطية، وعلى إرساء سياسة لا سياسية، وبعبارة أخرى حلّت التقنية محل الإيديولوجيات التقليدية.
كلّ ما هو سياسي وله طابع عَمَلي استُعيض عنه في ظل الدولة المعاصرة وفي الرأسمالية المتطوِّرة بالآليات التقنية، واختُزِل في مجرَّد مشكلات بيروقرطية وإدارية وفي إجراءات تقنية. لقد اعتُقِد بأن باستطاعة العلم والتقنية أن يقدِّما حلولاً لكلّ ما استشكل في الوجود المعاصر: استحالات الثقافة في المجتمعات الرأسمالية إلى صناعة للأوهام، واختُزلت في مجرد تنظيم لأوقات الفراغ، لقد تحوَّلت الثقافة إلى ترفيه وتسلية، والحال أنّ الثقافة سمو ورقي وتربية ذوق.
يقوم العلم والتقنية بطمس الصراع الطبقي وبإخفاء التفاوت الاجتماعي وبتحويل المعضلات الاجتماعية إلى مجرد مشكلات مالية واقتصادية وبيروقراطية. وبدل طرح مشكلة العدالة الاجتماعية يتم إرجاعها إلى مشكلة تنافس وإلى مسألة ربح وخسارة وإلى قضية حظ. ومن هذه الزاوية تُعتَبَر الفئات الفقيرة ضحية سوء حظها، ولا يُعَبَرُ فقرها سوى نتيجة خلل اقتصادي لا حصيلة ظلم اجتماعي يلحقُها.
يمكن – حسب هابرماس – رصد بعض مظاهر تحكُّم إيديولوجيا العلم والتقنية في المجتمعات الرأسمالية المتطوِّرة، التي يمكن تقسيمها إلى قسم يهم تقنية المراقبة والاتصال، وتقنية التحكُّم في الحياة والوراثة، وهي كالآتي:
أ- ما فَتِئَت المجتمعات الرأسمالية المتطوِّرة تستخدم تقنيات جديدة في التحكُّم والمراقبة وتوجيه سلوك الأفراد والجماعات، وفي استخدام وسائل وتقنيات مضادة للشغب. ألم تعد هذه المجتمعات مجتمعات تلصُّص وتجسُّس على مواطنيها بواسطة زرع كاميرات المراقبة في كلّ ركن وفي كلّ زاوية؟ إنها مجتمعات تُطَوِّر أنظمة المعلومات في سبيل ضبط أفرادها ومراقبتهم.
ب- ما انكفت هذه المجتمعات تُطوِّرُ وسائل تقنية طبية للتحكم في النظام الجيني وتوجيهه، وفي تعديله بما يتلاءم مع السياسات الليبرالية ومع مبدأ الفعالية..
كلّ هذه الوسائل والإجراءات التقنية تدلُّ على اتجاه عام في المجتمعات المعاصرة نحو اعتبار الإنسان مُصَمَّم على شكل آلة أو على شكل حاسوب، وبالتالي إمكان توجيهه بالكيفية التي يُراد توجيهه بها.
وفي هذا الإطار يمكن الكلام على حدوث تحوُّل كبير لم يُفطَن إليه: اندرج الاستلاب في إطار الإيديولوجية الماركسية في مستوى لا واعي وتلقائي. بمعنى آخر كان الاستلاب فيما مضى يحصُلُ بكيفية تلقائية وليس عن سبق إصرار، أما اليوم فصار الاستلاب يُصمَّمُ قبلياً ويُخطَّط له سلفاً بوسائل علمية وتقنية، إنّه استلاب مُبَرمَج ومنظَّم مسبقاً.
وبهذا المعنى شاع في العصر الراهن الحديث عن نهاية الإيديولوجيات وبداية عصر التقنية، بحجة تبشير المجتمعات المعاصرة بالمعرفة للجميع – وهذا ما يُصطَلَح عليه بمجتمع المعرفة والعلم – لكن المُلاحظ هو انسياق العالم وراء تيار جارف يُسمّى العولَمَة، حيث أصبح الادِّعاء بأنّه قرية صغيرة أو قرية كونية مجرَّد دعوى إيديولوجية تُخفي من ورائها البَونَ الشاسعَ بين الفقراء والأغنياء، ليس بين الجنوب والشمال، بل حتى داخل المُجتمعات المسماة مجتمعات الوفرة.
إن ما لم يفطن إليه المبشِّرون بنهاية الإيديولوجيات هو أنّ العلم والتقنية يشكِّلان في العمق إيديولوجيات جديدة، رغم ما يظهران به من مظاهر الحياد والموضوعية. لقد حلَّ في المجتمعات الرأسمالية المتطوِّرة نزوع نحو الضبط والمراقبة بسبب هيمنة الوعي التقنوقراطي الذي يُشيع الوهم الإيديولوجي بأن بمُكنَة العلم والتقنية إيجاد حلول لكل مشكلات الإنسان المعاصر. يمكن اعتبار إيديولوجية العلم والتقنية هي إيديولوجية بديلة للإيديولوجيات البورجوازية والليبرالية الكبرى، وتقم مقامها، لأنّ هذه الأخيرة استنفدت طاقاتها التعبوية؛ فهي اليوم مصدر إضفاء المشروعية على الممارسات انطلاقاً من تكريس مبدأ الإنجاز والفعالية، ومن خلال تقديم وعود جديدة بضمان رغد العيش وتأمين الشغل واستقرار الدخل.
لقد أسفرت هيمنة إيديولوجية العلم والتقنية في المجتمعات المعاصرة – حب هابرماس – عن نتائج أهمها المساهمة في ضمور وانكماش الفضاء السياسي والمجال العمومي، والتواطؤ في صرف أنظار الناس عن السياسة. يكفي النظر إلى ما تقوم به وسائل الإعلام من تشويه للنقاش السياسي ومن تحويل المناظرة السياسية إلى شبه فرجة لمعرفة إلى أيّ مدى ساهمت تكنولوجيات الاتصال في تحويل الحملات السياسية إلى ما يشبه حملات دعائية وإشهارية. ويكفي النظر إلى تكنولوجية وصناعة الترفيه لمعرفة إلى أيِّ مدى ساهمت في استغلال أوقات الفراغ في المجتمعات المعاصرة بشكل لم يعد للإنسان متَّسع من الوقت للاهتمام بالعدالة الاجتماعية وبحُسن توزيع الثروات، وبالعمل السياسي الذي يهدف إلى التغيير. صار كلّ همّه أن يهرب من الأسئلة الكبرى ومن المشكلات التي يطرحها الوجود المعاصر. كما أشاعت وسائل الاتصال الحديثة ثقافة الترفيه التي امتد أثرها إلى الطبقات المحرومة في المجتمع.
نشرت إيديولوجية العلم والتقنية ما يمكن أن نسميه بالتصحُّر السياسي وجعلت من السياسة مجالاً مقفِراً لا يهتم به الإنسان سوى من باب الفضول، وطمست الدور الحيوي للسياسة في إرساء الديمقراطية وفي تقرير الإنسان لمصيره.
فضلاً عن ذلك ساهمت تكنولوجيات الاتصال في تنامي النزعة الفردية، وفي انحسار الناس في دائرتهم الخاصة، وفي لا مبالاتهم بغيرهم، وانخفضت درجة حرارة الشعور الإنساني بالآخرين لديهم فصار همُّهم تحسين دخلهم وتطوير مسارهم المهني.
3- جاك إيلول: التقنية نظام:
أ- في مفهوم التقنية:
يُتيح مفهوم التقنية تفسير الظواهر التقنية، ولكنه مفهوم مركَّب. هل التقنية طريقة عمل أم أسلوب أو مجموع من الطرائق (Ensemble de procedes)؟ ومهما يكن من أمر فالتقنية المقصودة هنا هي التقنية ذات التطبيق الصناعي، ومن ثم فهي ذات صلة بالآلة التي تعتبر مُنتَجاً حديثاً. التقنية هي كلّ الطرائق الآلية ذات التطبيق الصناعي، فيما التقانة أو التكنولوجيا هي العلم الذي يدرس التقنيات. نظراً إلى كون المجتمعات الحديثة مركَّبة ومعقَّدة، وبسبب التقسيم الاجتماعي للعمل ابتُكِرَت تقنيات منها آلات تزيد من فعالية الإنسان كتقنيات الحساب، ومنها الأدوات والأجهزة التي تعوِّضه وتحلُّ محلَّه. وما كان من تعدد التقنيات إلا أن زادت من تكاثر الآلات. وقد ارتبط تطوُّر التقنيات بالثورات الصناعية الكبرى: الأولى ارتبطت بالطاقة الفحمية، والثانية بالطاقة الكهربائية، والثالثة بالطاقة النووية، والرابعة بالحاسوب. تبدو التقنية اليوم عبارة عن عمليات مستقلة بذاتها تكوِّن النظام التقني برمّته، التي يمكن تحديدها في التنظيم والحَوسَبَةِ وكشف المعلومة وتخزينها، والتي يُستعاض بها عن النشاط الإنساني وعن الفاعلية الإنسانية. لا تُختَزَل التقنية في مجرَّد استعمال الأدوات والأجهزة والآلات، ولكن تمتد لتشمل كلّ الوسائل والطرائق الأكثر فعالية، والتي تؤثر ليس في الإنتاج الصناعي ولا في الإنتاج الاقتصادي بل وفي التنظيم الاجتماعي وفي نمط عيش الإنسان أيضاً.
ب- في التقنية كنظام:
التقنية في نظر جاك إيلول نظام أو نسق مترابط الأجزاء، ومن ثمّ فلهذا النظام منطق داخلي هو الذي ينتج في نهاية المطاف الظاهرة التقنية. ولا يتم التقدم التقني سوى من داخل النظام التقني برمّته. وحدها النظرة الجامعة يمكنها أن تجعلنا قادرين على فهم الظواهر التقنية. يعمل النظام التقني ذاتياً وبكيفية آلية وشبه مستقلة مثلما هو الحال في دراسة ماكس فيبر للنظام البيروقراطي. ما يرمي إليه إيلول هو بيان أنّ للنظام – سواء تعلَّق الأمر بالنظام التقني أو بالنظام البيروقراطي – آليات ووظائف لا يستطيع الإنسان إلى تغييرها سبيلاً، ويظل هو نفسه مشروطاً لها. من الخطأ الاعتقاد بأنّ التقنية هي مجموع الأشياء التقنية، وأنّ الإنسان يملك زمام التقنية ويقودها إلى الوجهة التي يُريدها. لا يمكن فهم التقنية سوى كنظام أو كنسق. ليست التقنية سيارات وطائرات وأقمار الناظم لكل الآلات والأجهزة والأدوات ولكل الطرائق والأنظمة. النظام التقني يجعل من كل الظواهر التقنية كلّاً مترابطاً: فلا معنى لسرعة الاتصالات في العالم التقني الذي نعيش فيه بدون ربطها بأنماط الشغل وبأشكال السكن وبنُظُمِ الحُكمِ والإدارة وبأنماط الانتاج والتوزيع والاستهلاك.
فما هي خصائص هذا النظام التقني؟
أوّل هذه الخصائص التنظيم الذاتي (Autoregulation). ولنضرب مثالاً على ذلك يتطوُّر نظرية المعلومات، فلولا ترابط أجزاء النظام التقني لما أمكن تطوير نظام المعلومات الذي يمكِّن أجزاءه من التواصل فيما بينها. وها نحن اليوم نلاحظ كيف أنّ الصورة الرقمية تُستَعمَل في الاتصال مثلما تُستعمل في الطب. يتسم الاتجاه العام للنظام التقني بتطوُّر نظرية المعلومة. لم تعد المجتمعات الحديثة مستندة إلى مبدأ الإنتاج بقدر ما صارت قائمة على الإرسال، والأهم فيها ليس السلعة وإنما المعلومة.
ثاني هذه الخصائص أنّ النظام التقني مكوَّن من أنظمة فرعية: نظام الاتصال، نظام الإنتاج والاستهلاك، النظام الحضري والعمراني... إلخ.
ثالث هذه الخصائص المرونة، لأنّ التقدم التقني يتيح بدائل كثيرة وحلولاً عديدة، ولكن شريطة الامتثال للنظام التقني برمّته، فهو يترك هوامش للحركة والفعل والتصرُّف، بصرف النظر عن الاعتبارات الأخلاقية.
رابعها، يطوِّر النظام التقني طرقه الخاصة للتكيُّف والتعويض، وتُبتَكَر حلول وبدائل يمكن بواسطتها إيجاد حلول إنسانية لعالم لا إنساني.
Ha dedicato Heidegger la parte fondamentale del suo discorso alla tecnica moderna sia quella elettrica che quella nucleare e anche alla tecnica della creazione del opinione pubblica, e ha illustrato attraverso degli esempi come viene usata la tecnica per immagazzinare energia, e come viene spesa quando ce bisogno, prima che la tecnica diventasse una attività umana o un strumento per relazionare dei fini, ma e’ prima di tutto una essenza che ha a che fare con il fondamento della esistenza, e anche l’espressione di come appare l’esistenza nel era moderna. La tecnica e’ un richiamo alla esistenza , e anche un richiamo alla natura per dare l’energia che ha. E questo significa che la tecnica incita la natura per far uscire fuori quello che ha come i minerali che da cui si estrai l’uranio per produrre l’energia nucleare. la tecnica nel sua essenza e' un incitamento alla natura per far uscire la sua energia e poi immagazzinarla e distribuirla. E l’uso dell’energia non esclude quella che ha anche il uomo, anche lui a sua volta e’ incitato a consegnare l'energia che ha. E fa heidgger l’esempio del guardiano della foresta che e’ indebitato alla foresta , e gli alberi alla fabbrica del legno e il legno e’ sogetto alla produzione della cellulosa e quest’ultima per fare la carta, e la carta per fare I giornali e le riviste, e queste per fabbricare oppinione pubblica. E quindi l’essenza della tecnica che risiede dietro la sua apparenza, consiste nell'incitamento alla natura e anche all’uomo , e li fa diventare in posizione stand by per richiamarli quando servono